شعار قسم مدونات

من جمالية القبو إلى كابوس القبر..

BLOGS بيت

تعتبر النزعة الفينومينولوجية أحد أبرز التيارات الفلسفية الكبرى التي ظهرت في القرن العشرين على يد الفيلسوف الألماني هوسرل، وقد جاءت هذه النزعة كرد على الفلسفات العقلانية الكلاسيكية. فالظاهراتية كفكر فلسفي، فكرتها المركزية هي قصدية الوعي، أي أن الوعي متجه دوما إلى الموضوع، بهذا يؤكد إدموند هوسرل المقولة التي تذهب إلى أنه لا يوجد موضوع بدون ذات، ويعطي المنهج الآتي:

أولا: الاختزال الظاهراتي: أي الامتناع عن الحكم فيما يتعلق بالواقع الموضوعي وعدم تجاوز حدود التجربة المحضة أي الذاتية.

ثانيا: الاختزال المفارِق: ويعني ذلك اعتبار موضوع المعرفة ليس موضوعا واقعيا، تجريبيا واجتماعيا بل مجرد وعي مفارق.

الظاهراتي يختلف عن المحلل النفساني في منطق مقاربته للظواهر، فهو لا ينظر إلى الظواهر والتجارب على أنها تجارب مرضية، ولا يعود إلى ماض الإنسان من أجل اكتشاف سبب تعاسته

لقد شهدت مسيرة باشلار المعرفية تحولا نوعيا في تفكيره، ففي بداية حياته كان متشبعا بنزعة موضوعية وعلمية، إلى درجة أن أغلب الباحثين يرونه من هذا الجانب، لكن ومع تقدم سنه بدأ يميل إلى نزعة ذاتية فينومينولوجية، وهكذا يمكن أن نتحدث عن باشلار العلمي وباشلار الذاتي.

 

وفي إطار تناولنا للنزعة الفينومينولوجية، نستحضر كاستون باشلار في إعطائه للخيال فهما جديدا، فقد تناول البيت في كتابه جماليات المكان باعتباره عالم الإنسان الأول وحامي لأحلام اليقظة، فالفائدة الأساسية للبيت حسب باشلار هي حماية أحلام اليقظة والحالم نفسه، وإتاحة الإنسان الحلم بهدوء. إن البيت القديم يجعلنا نتذكر كل ما عايشناه في حياتنا من أحاسيس وتجارب مختلفة، فالحياة تبدأ بداية جديدة، تبدأ مسيجة محمية دافئة في صدر البيت، وهكذا فهو مصدر الأمن والحماية. 

إن الظاهراتي يختلف عن المحلل النفساني في منطق مقاربته للظواهر، فهو لا ينظر إلى الظواهر والتجارب على أنها تجارب مرضية، ولا يعود إلى ماض الإنسان من أجل اكتشاف سبب تعاسته، إنما ينظر إلى هذه التجارب كجزء من وجودنا كإنسان في العالم، لذلك نرى باشلار يعود إلى تجاربنا تجاه البيت من أجل استشعار هذه التجارب المحفورة في داخل الإنسان الذي هو مركز العالم.

 

فالبيت يشكل مجموعة من الصور التي تعطي الإنسانية أوهام التوازن، ولتنظيم هذه الصور حسب باشلار يجب رد الاعتبار لموضوعين أساسيين:

أولا: نتصور البيت كائنا عموديا تتجسد من خلال الاستقطاب بين القبو والعلية.

ثانيا: نتخيل البيت كوجود مكثف أي أنه يتوجه إلى وعينا بالمركزية، فهذه هي الحالة القصوى التي يتجمع فيها الزمن وتجعلنا نستحضرها بقوة.

 

إن الحلم بالقبو له منافع كثيره، فهي الهوية المظلمة للبيت، وهو الذي يشارك قوى العالم السفلي حياتها، فحين نحلم بالقبو فنحن على انسجام مع لاعقلانية الأعماق. فالحالم بالقبو يجعله يحفر ويحفر حتى يجعل أعماقه نابضة بالحيوية.

إن تناول باشلار للبيت تم بطريقة شاعرية وجمالية، بحيث اكتفى بالصور الجذابة للبيت من القبو إلى العلية، وتغاضى عن الموضوعات التي تثير الكراهية والصراع، فقد حسم في هذا منذ البداية حيث يقول: إن مكان الكراهية والصراع لا يمكن دراسته إلا في سياق الموضوعات الملتهبة انفعاليا والصور الكابوسية، هنا سنكتفي بالصور التي تجذب.

 

تصوراتنا عن القبر لا تحقق عبر تجربة ذاتية، كما في التجارب الأخرى، وهذا هو المرعب فيه، بل دائما نتصوره من خلال تمثل تجارب الآخرين، عاجزين عن نقل تجاربهم إلينا مباشرة
تصوراتنا عن القبر لا تحقق عبر تجربة ذاتية، كما في التجارب الأخرى، وهذا هو المرعب فيه، بل دائما نتصوره من خلال تمثل تجارب الآخرين، عاجزين عن نقل تجاربهم إلينا مباشرة
 

شيء جعل بعض من الباحثين يسلطون أضواءهم على جمالية المكان العدواني العنيف من منظور نفسه، أي المنظور الفينومينولوجي، مثل روح السجن وروح المقبرة، تلك التي تسكن الذاكرة وتتعشش فيها، ويحتاج استحضارها إلى طقوس وشعائر وبخور وشاعرية. فإذا كان البيت مصدرا للأمن والحماية ومبعثا للتوازن والحيوية، فإن القبر يبعث في نفوسنا القلق والرعب واللاتوازن نتيجة تفكيرنا في مصائرنا، بحيث أننا لا نفكر في القبر في وجوده المادي، وإنما في بعده الآخر، أي تخيل الحياة الأخرى.

 

إن تصوراتنا عن القبر لا تحقق عبر تجربة ذاتية، كما في التجارب الأخرى، وهذا هو المرعب فيه، بل دائما نتصوره من خلال تمثل تجارب الآخرين، عاجزين عن نقل تجاربهم إلينا مباشرة، فلا يبقى لنا إلا الخيال، وبعض الحدس، لإكمال لعبة الليغو. لهذا فالفيلسوف يعجز عن إيجاد الأجوبة لهذه الموضوعات، حيث يكتفي فقط باتخاذ الموقف العاجز الذي لا يكف عن طرح الأسئلة التي لا تزيد مزقا إلا حيرة، فالشعر إذن هو الوحيد الذي يعبر عن انفعالاتنا وانتعاشاتنا الكبرى تجاه بعض تجاربنا.

إن التفكير في القبر يختلف عن التفكير في القبو، فكلاهما موضوعات للخيال، لكن هذه الموضوعات لا توجد بدون الذات، فالذات هي التي تجعل القبر أو البيت موجودا، ولذلك فإذا كان البيت أو القبو مكانا لإنعاش ذاكرتنا واستحضار أوهام التوازن من خلال معايشتنا لتلك التجارب، فإن تخيلنا للقبر يجعلنا لا نستحضره عن طريق الذاكرة، أي صورة واقعية، وإنما نطلق العنان للخيال الذي يشيد قلاعا مفتوحة من الكوابيس تعربد فيها، في انتظار لحظة مواجهته ومعايشته بالفعل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.