شعار قسم مدونات

وإلى الله كان المَفَر

blogs البكاء في الدعاء
كأن ينخلع القلب من الجسد، تهتز الجوارح، نثبتها، فيرتجف الدم في العروق، تتوه الأعين، يرتكز الغموض فينا، نفقد السيطرة، يكبلنا شيءٌ ما، يمسك بياقاتنا ويحكم الخناق على أنفاسنا، تلك اللحظات التي نعلمها جيداً، درسنا تفاصيلها بدقةٍ من قبل، يصيبنا فيها شيءٌ من تكتل الفكرة في الرأس فيثقل، تُرمى على كاهِلنا مهمةَ الانتظار الذي نراه أبدياً بحمله، يبدأ فيها كل شيءٍ بالتخلي عنا، نصاب بافتقار لفظي مقيت، ويبتسم لنا الفرح الخبيث.

نبحث عن الخلاص لنجد أنّا وفي كل مرةٍ قُلنا فيها "وصلنا" خاننا الطريق فهوينا، نستعين بكلماتنا المبتورة، غير المكتملة، المرتجفة، المتقلقلة، المعتمة ولا نفلح، نحن ندرك أن الأيام دولٌ وكل شيء فينا يتغير ويتبدل، القلوبُ تتقلب وما حفرَ فيها لا يزول، الأحداثُ تتكاثر والأثر منها لا يخف، الشعور يفيض ولا ينقص، ولكننا نجد من الصعب إقناع أنفسنا أن شيئاً فينا قد نهض من مرقده مهاجراً عنها تاركاً فيها خواءً داخلياً مروعا.

تبدأ فكرةُ الإيمان بمرحلية الوجود تجتاحنا على حين غرة، وتتبلور في ثنايا عقولنا، مرحلية الشعور، مرحلية التعامل، وحتى مرحلية التنفس المنتظم، والنبض الهادئ، الحِس المرهف، المبدأ على صعوبته، كلها تذهب وتعود عندما تشاء وكيفما تشاء، إلا مرحلية الأشخاص تأتي فتترك ندبة عمرٍ وترحل.

نتوصل في مرحليتنا أنّا لا نشبهنا حقيقةً، فنبحث عنا في كل بقاعِ الأرض، وعندما لا نجدنا نجلد أنفسنا بشدة، ثم نفكرُ في أخطائنا التي ارتكبناها ولم تُغفر لنا بعد، لنرى أن العلاقة بيننا وبين خطايانا أعقد من أن تجد لها كتب الفلسفة تفسيراً، فهل نحن فتنة أم خطيئة أم أن التصنيفات كانت قد ألقت بنا على هامشٍ ممزق تحتضننا فيه برودة الوجود ووحدة الشعور وتكاثف التعب!

في ندائنا الأول الذي يخرج سليماً من حبالٍ صوتيةٍ رثة، يغرق البحر الذي في أعيننا، وفي حروفنا الأولى ما بعد النداء تتحشرج المصطلحات في الحنجرة
في ندائنا الأول الذي يخرج سليماً من حبالٍ صوتيةٍ رثة، يغرق البحر الذي في أعيننا، وفي حروفنا الأولى ما بعد النداء تتحشرج المصطلحات في الحنجرة
 

نحن الذين كنا نظن أن بوضوحنا سنشبع ضمائرنا الآنّة، ولكنا قمنا بقض مضاجعها راضين، فما نلبث أن نرتعب من الحقيقة التي تلاحقنا بعد أن كنا نتبعها سعياً لليقين. ثم نطالب دواخلنا بطبيعيةِ العَيش دوماً، إن الأمر مفروضٌ علينا، فلا يمكننا تشكيل مشاعرنا بما يتناسب مع إرادتنا، نلجأ لأن نخفي الحزنَ حتى نظهر كبشرٍ طبيعيين، يبتسمون في وجوه المارة ويتظاهرون بزيادة الأمل مع كُل إشراقةِ شمس، حتى ينظر إلينا ألمُ أعماقنا ويلوم غدرنا؛ فيُعَشَّشُ فينا ألمٌ مضاعف، والنفس الملأى بالخيبات تتربعُ على أيكة الحزن.

نصلُ إلى الحل، علينا أن نبدأ مجدداً، نلملم شتات أنفسنا ثم نبعثرها بعيداً عن الوجود في زوايانا الخاصة التي نلجأ إليها كلما اشتقنا إلينا، وها هو بعضنا يتوه فيبعثرها في لُجة الغناء أو في صخب الموسيقى أو حتى في تفريغٍ لا منطقيٍ يشكلُ عقاباً إضافياً للنفس بدلاً من أن يكون نجاة، كان لا بد من السيرِ في متاهةِ البحث عن الأماكن، لنجد أن كل شيء فينا تقود بوصلته إلى نقطة ما، هي تلك النقطة التي ترمم دواخلنا برفق، التي من أتاها بقلبٍ متصدع لم يخرج منها إلى والطمأنينة تتغشاه وتطبب صدعه، هي التي وفي كل مرة نقف أمامها تقوم بفتح ذراعيها لتضمنا بين أكنافها ثم تربت على أكتافنا برفق فتنزلقُ عنا أفكارنا التي كانت تدفعنا إلى وادي العدم.

فيها ننسلخ عن وجوهنا المصطنعة، وتنسلخُ عنا تلك الوجوه التي كنا قد ارتديناها أمام البشر والوجود، نضعها جانباً، ثم نلصق جباهنا أرضاً، ونبدأ كطفلٍ ينطق بحرفه الأولى منادياً فتتلكأ الكلمات، ثم وفي ندائنا الأول الذي يخرج سليماً من حبالٍ صوتيةٍ رثة، يغرق البحر الذي في أعيننا، وفي حروفنا الأولى ما بعد النداء تتحشرج المصطلحات في الحنجرة، الكلمة الثانية يتساقط الدمع فيلامس الأرض عند أقرب نقطةٍ تحييه، وهنا ينطلق اللسان، يخفق القلب، يتفرغ العقل، تطمئن النفس، وتتفتح مدارك الوجدان ثم تلتئم الجوارح، وينغلق صدع الكيان، ها نحن وكأن سنيناً عجافاً قد ارتحلت عن أجسادنا وجاء أول الغيث ليروي ظمأ أنفسنا إلى قرب من رزقنا قربه .. قال: "ففروا الى الله" وإلى الله كان المفر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.