شعار قسم مدونات

عندما هجر أيلولنا المطر

blogs - صورة رمادية عن الخريف
أذكر كيف كانت الفصول تباغتنا، كان الصيف حلفا للربيع الذي لا يخلف لنيسان موعدا، وكانت سماء أيلول سخية على الأشجار العطشى، كنا نعرف أن الصيف رحل منذ الهطول الأول للمطر، كانت ضحكات الأطفال تحت المطر تضاهي بنشوتها استنشاق عبير التراب، وكانت طقوس الشتاء تفاجئنا كما عودة غائب طال انتظاره. بالفرح توصد الأبواب على البيوت الدافئة، وبالحنان كانت تزهو ملابسنا، وبالحب كانت الأطباق الشتوية تجعلنا أكثر شهية.
كان في الوقت متسع للقاء العديد من الأحبة في يوم واحد، وكان ختام كل يوم تجمع العائلة ليلا أمام التلفاز، كانت الأغاني المكررة لها مذاق المتعة في كل مرة، وكانت أكثر البرامج الوثائقية مللا لها لذة في حضن العائلة، وكان انتظار المسلسل المسائي له شغف بنكهة "اللمة"، كنا آنذاك جماعات ليس أفرادا!

كان لنا كبير! فكبارنا كانوا عنوان الوقار، كانوا لنا مرجعا ولهم الأمر في تصويب المسار، لم يكونوا من حملة الدرجات العلمية، لكنهم كانوا من أصحاب الدرجات الفكرية. كانوا القدوة في الأخلاق ولهم العزم في الإصلاح لينا وحزما، ولم يكن فينا من يأخذه عن طاعتهم الاستكبار. كان صغارنا يحترمون الكبار!

كانت البيوت أكثر سكينة، والشوارع رحيمة على المشاة، والأزقة أمينة على أطفالنا والتراب لذيذ للعب!كانت الحياة بسيطة كما كان أثاث بيوتنا، لكن رغم ضيقها كان فيها متسع للأحبة، تكرم الضيف متى ما جاء، كان الجار لا يرد جاره عن بابه وأهل الحي يعرفون أهله من زائره، ووجوه الناس تلقي الحب قبل الابتسام، وحسن الظن قبل السلام. كانوا يتعارفون!

كنا نعيش اللحظات، فترتقي أرواحنا ونحن نتابع الشروق، وتهدأ نفوسنا حين تخلد الشمس للغروب، وننتشي حين تهب نسائم البحر أو تترقرق مياهه تحت السماء
كنا نعيش اللحظات، فترتقي أرواحنا ونحن نتابع الشروق، وتهدأ نفوسنا حين تخلد الشمس للغروب، وننتشي حين تهب نسائم البحر أو تترقرق مياهه تحت السماء

كان أطفالنا يتحررون من علب الإسمنت، يركضون، يلعبون، يختبرون الحياة على رسلهم، وتجبلهم الحياة أيضا في تمهل، كانوا أكثر لياقة رغم قلة النوادي الرياضية وأكثر انطلاقا رغم شح الملاعب، كان المدرس رسولا، يربي ويعلم، وقدوة يمتد نفحها أجيالا، كان له هيبة وتمجيد، كانت الطبشورة عشقا والسبورة القديمة كهفا من أسرار، وكانت منصة المدرسة أكثر فخرا بالمتوجين عليها من منصات الأوليمبيات، كان التعليم مبجلا ولكل مهنة احترام.

كان الخير بين الناس، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه، وكان المعروف يسدى للغريب دون سؤال، وكانوا يدسونه في أوردة أطفالهم، كان العطاء سعادة، وكان التواد تكافلا! كانت البساطة في كل شيء سيدة الفخامة ولكل موقف مذاقه المميز، لم تكن أفراحنا تعج بالمظاهر ولم يكن استقبالنا للمولود الجديد مرتبط بأفخم أنواع الشوكولا، ولم تكن قيمة الشخص ترتفع طرديا مع ثمن ساعته، وكانت طقوس الفرح متشابهة بين الناس حد الملل.. لكن كانت السعادة أكثر صدقا!

كانت الأسر أكثر تماسكا والنساء أكثر طاعة، والرجال أكثر تحملا للمسؤولية، كان الطلاق أقل والتراحم أكثر والمودة عامود البيت. كنا نعيش اللحظات، فترتقي أرواحنا ونحن نتابع الشروق، وتهدأ نفوسنا حين تخلد الشمس للغروب، وننتشي حين تهب نسائم البحر أو تترقرق مياهه تحت السماء، كنا نسمع عزف الصنوبر وتندي قلوبنا أصوات الضحكات، لم تكن الكاميرا مؤرخنا.. كان إحساسنا هو سيد الموقف. كنا نتذوق الجمال!

كانت الفاكهة لها رائحة، والجوري يطل عن سور حدائقنا على استحياء، والشوق يلف رسائل العاشقين، والأطباق تلف بين الجيران دون أن تصنفهم ضمن طائفة أو دين، كان جرحنا الوطني في فلسطين وفي نبض كل منا انتفاضة، كنا نهتف "بلاد العرب أوطاني" وقوميتنا هي انتماؤنا، ورمز من رموز وحدتنا.. أن عدونا واحد! تشابكت خيوط الحياة، مذ هجر أيلولنا المطر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.