يعتبر النسيان منظومة تمزج بين الإهمال والنفور، الفشل والألم. إنه مبدأ كل تجربة فاشلة وروح كل مغامرة قاسية أليمة، يتغدى بنهم على الأفراح والأحزان، ملكة ذات قدرة طاقية ضاغطة، محفزة للجفاف ومغتالة للأحاسيس الإنسانية. وكما يختلف مفهوم النسيان من حيث الأساس والغاية، يختلف المنطق الذي يهدف إليه والذي تكون من أجل تحقيقه.

      

وفي الحديث عنه وجهتان، الأولى تعتبر النسيان حالة مرضية سلبية مدمرة للذاكرة ومخربة للعقل، والثانية تعتبره ظاهرة طبيعية ملازمة لحياة الإنسان بفقدانه للأحداث والوقائع بصورة تدريجية بسبب الزمان. إن في النظام الغذائي للنسيان لمسة سحرية تحافظ على التوازن النفسي، عن طريق محو الذكريات المؤلمة والتجارب الفاشلة وسقطات الذات القاسية لتصبح مع مرور الوقت نهرا يقطعه الإنسان تاركا به كل آثار الفشل والحقد والألم وفاتحا المجال نحو حاضر مليء بالمواقف الجديدة.

      
يبقى النسيان أداة الإنسان لتنشيط الفكر وتحرير الذاكرة حيث يحور في بعض الأحيان المعلومات عند محاولة استرجاعها وفي حين آخر يبدلها بمعلومات جديدة. هذا الكائن الطفيلي الذي يعيش ويعشش داخل الذاكرة ويعبث بمعلوماتها، يضعف قدرتها على تخزين المعلومات ويفقدها السيطرة على المكتسبات.

          
لعبة يجيد الإنسان لعبها حيت يستعين بها في لحظات ضعفه وانكساره وفشله أما في حالات السعادة والنجاح، الفرح والنشوة فإنه يستعين بالذاكرة ويحاول تشفير وتخزين تلك اللحظات بكل دقة. لكن دوام الحال من المحال فحبل النسيان طويل وإن قصر، والنسيان لعبة يصعب السيطرة عليها، فكلما استعان الإنسان بذاكرته إلا ونشط النسيان ونضج ليصبح النتيجة الحتمية التي لا يمكن للإنسان إلا التسليم بها فليس فيها عنصر الاختيار. وكما قال نجيب محفوظ "الحياة فيض من الذكريات تصب في بحر النسيان. أما الموت فهو الحقيقة الراسخة".