شعار قسم مدونات

أنا أُفكر إذا أنا مسؤول

Blogs- robot

تُخدَعُ الجماهير في هذه الأيام ليظنّوا أنَّ هنالك أنظمة آلية (روبوتات) قادرة على التفكير وتمتلك وعيًا بذاتها. بل يذهب المروجون لهذه الخُدعة والصرعة الجديدة إلى الإيهام بأن عصر البشر سينتهي بسيطرة تلك الروبوتات التي ستتفوق على "صانعيها"، وقد سبق تلك الصرعة وسيتلوها سلسلة من أفلام هوليود ومساجلات المشاهير لتثبيت تلك المفاهيم في عقول الجماهير. فنحن هنا نقف أمام حركة أصيلة تعمل بلا كلل على زرع فكرة "تهميش الإنسان" في الوعي الجَمعي البشري المعاصر. 

         

"أنتَ لا شيء، وستنتهي بالفناء، وتذكر أنكَ لستَ سوى غبار متطاير في هذا الكون الشاسع اللامُتناهي" وتشكل فكرة الحط من قَدْر الإنسان وتهميشه هذه حجر الأساس للسيطرة على البشرية ومعاملتها معاملة القطيع الذي يحق لمالكه فعل ما يشاء فيه، فإذا اقتنع المرء بضآلة قدره وبأنه ذرة غبار لا أهمية ولا قيمة لها، يفقد عندها إدراكه لكل معاني الصمود والمقاومة والسيادة ويصبح قانعًا راضيًا بالعبودية والانصياع ولا يُحرك ساكنًا (بعد أن فقد الدافع) لإنكار منكر أو إحقاق حق، فهذه المفاهيم قد فقدت كل معانيها. 
            
بالعودة للوراء قليلا، نرى أن نظرية التطور (النشوء والارتقاء) قد طرحت فكرة أن الحياة والإنسان تشكلوا بناءً على سلسلة "طويلة" من المصادفات والتطور الذاتيين القائمين على "الانتخاب الطبيعي" والـ "بقاء للأفضل". الأمر الذي ارتكزت عليه النازية والشيوعية وسوّغوا من خلالهما إبادة ملايين البشر دون وخز ضمير. فهم باستعبادهم وقتلهم للبشر إنما يدفعون باتجاه حركة "التطور" تلك للتخلص من "الأضعف" وليتولى ويسود "الأفضل" ضمن آلية الانتخاب الطبيعي المزعومة. 
    
ثُم تعمقت وتوطدت الفلسفة المادية وتشكلت آراء أصبحت الآن عامّة ودارجة "علميًّا" وإعلاميًا بأنّ وجود الحياة والإنسان ليسا سوى سلسلة أحداث توالت طبيعيًا وتلقائيًا كتحصيل حاصل ونفوا بذلك وجود قوّة مُدبِّرة تدير هذا الوجود. وللإجابة عن سؤال تفرد (Uniqueness) الحياة والإنسان على هذه الأرض قالوا بأنها كلها في النهاية ليست سوى تفاعلات كيميائية حتمية لِغُبارٍ كوني (Cosmic dust). وأنكروا -برؤيتهم المادية الصرفة تلك- مفهوم "الإرادة الحُرّة" عند الإنسان. فالإنسان بحسب تعريفهم ليس إلا كتلة حيوية كيميائية تعتمد على المورّثات وتستجيب للمؤثرات الخارجية وتتفاعل معها دون أن تمتلك قدرةً ذاتية على اتخاذ قرارٍ مغاير وروجوا بذلك لمفهوم "الجَبرية الماديّة".

        

 فالحواسيب منحصره في كونها آلات صمّاء قادرة على استيعاب كميّات هائلة من البيانات ومِن ثم توفيرها للاستخدام، وكل ما يُسمى بالذكاء الصناعي وليس ذكاءً أصيلاً
 فالحواسيب منحصره في كونها آلات صمّاء قادرة على استيعاب كميّات هائلة من البيانات ومِن ثم توفيرها للاستخدام، وكل ما يُسمى بالذكاء الصناعي وليس ذكاءً أصيلاً
 

ولا نتحدث هنا عن نظريات وفلسفات حبيسة الكتب أو كواليس المناظرات الجامعية، بل نتحدث عن تيار جماهيري عام (Main stream) نُلاحظ معالمه بوضوح عند عبدة العلم المادي (Science believers)، وهو الدين الجديد الذي يُرَوَّجُ له على أعلى المستويات ليشمل البشرية كافة. وها هُم الآن يزينون أكاذيبهم بكذبة جديدة تنطلي على الكثيرين بعرضهم ل "روبوتات" تظهر وكأنها قادرة على التفكير، وقادرة على التعلم الذاتي، وقادرة على الإحساس وتقمص المشاعر وإظهار الرضى والغضب والحزن والضحك، بل ومُنذرة بأن الإنسان قد "خلق" كائنا أكثر تطورًا منه سيسطر يومًا على العالم. والادعاء بأن الإنسان ليس سوى حلقة في سلسلة التطور المزعومة وأنه "سيخلق" كائنات أفضل منه ستسيطر هي بدورها على الأرض. وليس بعيدا عنّا "فنكوش" صوفيا وأليكس. حيث يُخيّل للناس مِن سحرها أنها كائنات مُفكرّة مُدركة لوجودها. 
        
إن المشاهد المحسوس هو أن الذات الإنسانية بما تمتلكه من قدرة على التفكير والوعي والتعلم وحرية القرار تمثل معجزة مُذهلة وأن هذه الحياة وهذا الكون بما فيهم من انضباط وإبداع يمثلون معجزة مُذهلة، وأنّ وجودنا كله ليدل دلالة قاطعة على خالقٍ عَليٍّ موجِد ومُدبّر. والمشاهد المحسوس أن الأحداث التي نشهدها (سواء في أنفسنا كأفراد أو مجتمعات أو في هذا الكون) لا تجري هكذا بغير نسق ولا تدبير. لن يقدر الإنسان -في قناعتي ورأيي التقني- على "خلق" ذاتٍ إلكترونية واعية مدركة ومالكة لحرية القرار. فأعظم حواسيب الأرض لا تُحاكي قدرة طفلٍ صغير. وتفوُّق الحواسيب منحصر في كونها آلات صمّاء قادرة على استيعاب كميّات هائلة من البيانات ومِن ثم توفيرها للاستخدام، وكل ما يُسمى بالذكاء الصناعي (أو الصنعي) هو محاكاة واصطناع وليس ذكاءً أصيلاً. 
               
وتبقى الذات الإنسانية مسؤولة ومُحاسبَة عمّا تقدمه من خير أو شر، وأن وجودها ليس بلا هدف ولا ينتهي بالفناء بل وأنها مطالبة بالدفاع عن الحق ومساعدة المحتاج ومواجهة الظلم والباطل والبناء والنهضة وتحقيق الاستخلاف. من المهم في معترك هذا التدافع إعادة الاعتبار لمكانة الإنسان، فالإنسان مِن أكرم مخلوقات الله وأعلاها شأنًا، وهو يقف على قمة هرم الكائنات الحيّة ويمتلك بالإضافة إليها الإدراك والوعي والتفكير والمشاعر والقدرة على تمييز الخير من الشر والصواب من الخطأ، وهو لهذا كله مُكَلّفٌ مُطالب. لذلك فإعادة الاعتبار لمكانة الإنسان هو تهديدٌ مباشرٌ لِمَن يسعى للسيطرة على البشرية واستعبادها. 
      
ولنتذكر دائمًا "وهديناه النجدين"، فَمَن شاءَ نظر إلى نفسه كأعز وأكرم مخلوقات الله ومَن شاء نظر إلى نفسه كغبارٍ كوني متطاير. مَن شاء نظر إلى نفسه وتكريم الله له وتكليفه وتحميله المسؤولية وعَمِلَ لما بعد الموت، ومَن شاء عاش حياةً بَهيميّة شاحبة وخالية من الهدف والمعنى، فاختر لِنَفسِكَ مَنزِلاً تَعلو بِه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.