شعار قسم مدونات

آفة القراءة.. عندما تصبح القراءة موضة

Blogs- books

ربّما تكون الشعارات البرّاقة التي تنتشر هذه الأيام في مواقع التواصل ومجموعات القراءة، مثل: "القراءة ضرورة" أو "لنجعل من القراءة عادة" هي شعارات مضلّلة إلى حدّ كبير. وربّما بسببها أصبحنا اليوم نرى قُرّاءَ كُثُراً في العالم العربي، ولكن لا نرى مُثقٌفين بالمعنى الحقيقي. وربّما أيضاً لنفس السبب انتشرت ظاهرة "الإستثقاف" بين الشباب العربي، والتي جعَلت منهم مجرّد قِرَب مخرومة وطبول فارغة. ولم يقتصر أثر هذه الشعارات على القُرّاء، بل امتدّ بشكل طبيعي ومتوقّع إلى الكُتّاب الذين هُم بالأصل قُرّاء متأثرون بمثل هذه الشعارات. وقد قيل في القديم: "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً" واليوم ترانا نسمع كُلّ يومٍ بِكاتبٍ جديد أو كاتبةٍ جديدة ولكن لا نرى لهُ أو لها أدباً يُذكَر، أو بالأحرى يستحقّ أن يُذكر.

  
هُنا يُطرح السؤال: هل يجب أن نجعل من القراءة عادة؟ يقول الأديب الألماني فرانز كافكا في إحدى رسائله: "الكِتاب يجب أن يكون هُوَ المِعوَل الذي تتحطّم بهِ بحار الجليد فينا". هذه المقولة، التي أتفق معها تماماً وأرى فيها الوظيفة الحقيقية للكتاب والهدف الحقيقي من القراءة، تُجيب عن سؤالنا بالنفي التامّ. فالقراءة إن هيَ أصبحت عادة، فقدَت معناها وهدفَها. العادَة ليست مِعولاً يُحطم الجليد داخلنا، بل هي يدٌ كسولةٌ تُعيننا على بناء المزيد من الجليد في أنفسنا وعقولنا. وعندما نتأمّل كثيراً من القرّاء العرب، وربّما غير العرب أيضاً، نرى، مثلاً، أنهم قد يُبدون إعجابهم وحُبّهم لكُتُب معينة فقط لأنها كُتُب مشهورة أو تحظى بقبول كثير من الناس. فيقرؤونها من باب العادة ويُحبّونها رغم أنهم عند التدقيق لم يكسِروا جليداً ما فيهِم بسببها، بل ربّما لم يفهموها تماماً أيضاً. هذا ما تفعله العادة مع مرور الوقت، تُصبحُ آفة: نهَماً لا معنى لهُ.

 
أيضاً عندماً نُلقي نظرةً على القرّاء العرب وغير العرب في المواقِع المخصصة للقراءة، مثل موقع (غودريدز) نُلاحظ أن كثيراً منهم يقرؤون كثيراً لمجرّد المنافسَة وتحصيل عدد أكبر من الكُتُب مقارنةً بغيرهِم، أو يقرؤون كُتُباً معينة فقط لأن غيرهُم لم يقرؤوها بعد، فيحبّون أن تكون لهُم الأسبقيّة، فتكون قراءتهم سطحية جداً لا عُمق فيها ولا فائدة. وعندما تُناقِش أحدَهم في قضيّة ما من القضايا التي طُرِحَت في أحد الكُتُب الكثيرة التي قرأها، تجدُهُ لم يسمَع بالقضيّة من الأساس أو أنه لم يُحِط بها ويفهمها بالشكل اللائق. هذا ما تفعلهُ العادة مع مرور الوقت، تُصبح آفة: سِباق وهمي وإشباع لغرور الذات أمام الآخرين. 
 

معارض الكُتُب لم يعُد هدُفها نشر الوعي والثقافة كما تدّعي الشعارات التي يرفعونها، إنما هدفُها الرئيس هو الكسب المادي من خلال استغلال كَون القراءة موضة هذه الأيام
معارض الكُتُب لم يعُد هدُفها نشر الوعي والثقافة كما تدّعي الشعارات التي يرفعونها، إنما هدفُها الرئيس هو الكسب المادي من خلال استغلال كَون القراءة موضة هذه الأيام
 

وهُنا يُطرح السؤال التالي: هل القراءة ضرورة؟ والإجابة هُنا، في رأيي، مُركّبَة: نعم ولا! القراءة ليست ضرورة لذاتِها. فإن كانت ضرورةً لذاتها فهذا يعني ضِمناً أنها ضرورة لأن القارئ يريد أن يُبرز بها نفسهُ أمام الآخرين، فتُصبح مثل الأكل والشرب، مجرّد وسيلة للعيش أفضل أو أكثر من الآخرين. بذلك تظَهَر معها النتائج السلبية التي ذكرتُها سابقاً من نهَمٍ وسِباق. القراءة ضرورة فقط عندما تُحدِث الأثر في النفس. عندما تكسر الجليد. الكِتاب، بالطبع، هو المورد الأساسي لمعاوِل كسر الجليد، ولكننا لا يجب أن نذهَلَ عن هذا بذاك، فنحبّ الكتاب لذاتهِ ونحوّله إلى موضوع تقديس، كسَرَ جليداً أم لا! كسرُ الجليد هو الضروري، سواءٌ جاء عن طريق كتاب أو تأمل أو رقص، أو حتى استحمام أو قضاء حاجة!

                   
وقد لاحظتُ أن الناس العاديين الذين لا يدخلون سباقات قراءة في مواقع القراءة ولا يقرؤون إلا قليلاً -لكن بأناةٍ وفَهم- قد تصدُرُ عنهم بشكل عفويّ بعض الحِكَم والنوادِر الموجودة في كُتُب لم يقرؤوها، وهُم أنفسُهم قد يستغربون عندما يُخبرهم أحدٌ ما أنَّ ما قالوه موجودٌ أصلاً في كِتاب. يحدُثُ هذا معهم لأنهم يقِفون ويتأمّلون القليل الذي يقرؤونه بجدّية، على عكس كثير من قُرّاء الموضة الماراثونيين! الذين نجد أنهم قد لا يفهمون حِكَماً قرؤوها في كُتُبهم – بل ربّما قد لا يتذكّرونها أصلاً!
  
نحن نشهَدُ اليوم، للأسف الشديد، تحوُّل القراءة من نقطة تغيير إلى موضة. حتّى أنَّ بعض مجموعات القراءة (وأجزم أنني أُحسن الظن كثيراً عندما أقول بعض وليس معظم) من أمثال تلك المجموعات التي تُنظِم لقاءات شهرية لأعضائها في المقاهي الفاخرة، لا يكُون هدُفها إحداث تغيير أو نقاش فكري رصين وجادّ، إنما فقط يجتمعون من أجل التسلية والتعارف والتقاط الصور من زوايا مختلفة حتى يتمّ استخدامها فيما بعد للتباهي بالذات على صفحات مواقع التواصل. أيضاً معارض الكُتُب التي صارت تُقام في كثير من المُدن العربية بشكل دوري، لم يعُد هدُفها نشر الوعي والثقافة كما تدّعي الشعارات التي يرفعونها، إنما هدفُها الرئيس هو الكسب المادي من خلال استغلال كَون القراءة موضة هذه الأيام. 
 
كل هذه الأعراض المرَضِيَّة التي ذكرتُها ناتجة عن آفة قراءة الموضة الحالية، والتي أفقدَت الكِتاب هيبته. ولن أجازِف هُنا بطرح حلّ أو مشروع حلّ لهذه الآفة. ولكنني أؤمن أنها كأيّ موضة أخرى ستنتهي عاجلاً أم آجلاً وريداً رويداً دونَ أن يُحسّ أحدٌ بذلك. ولكن السؤال الهامّ الذي يبقى هو: هل ستتركُنا هذه الموضة كما كُنا قبلها؟ أم أنها ستأخذ شيئاً منّا معها؟ هل ستتركُ للكتاب هيبته التي كان عليها قبلها، أم أنها ستحطّمها وتذهب؟ وهل ستتركُ للكُتَّاب مقامَهُم العالي الذي كانوا فيه قبلها، أم أنها ستهوي بهِم إلى القاع ثمّ تمضي؟ تُرى، كيف سيبدو شكلُ القراءة بعدما تُشفى من آفتها الحالية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.