شعار قسم مدونات

محنة الجزائر في تصدير أبنائها

Blogs- Algeria
لم يعد أبناء بلد المليون ونصف المليون شهيد يتغنون في المحطات التاريخية بأمجاد أسلافهم الذين سبقوهم في الكفاح ولم يعد للتاريخ اليومَ أيٌّ معنى، بعد أن أحضرت الأنفس الشح وفقد الجميع الأمل في أن يبزغ نور التغيير الذي من الممكن أن يضمن لهذا الشعب العيش في كنف كرامة يستحقها. ربما بعبارة أخرى: لم يَعد أحد يطيق البقاء في الجزائر.
               
ربما تبدو الجملة رهيبة نوعا ما، لكن الاستفتاء الذي قامت به اِحدى الصفحات الجزائرية المليونية في إن كان الجزائريون يرغبون بالبقاء في وطنهم أو الهجرة وكانت النتيجة صادمة حين أثارت القلة القليلة فقط البقاء والتي قدرت بحوالي أربعة ألاف مقابل أكثر من ثلاثين ألف كلهم يطمحون في الرحيل من هذا الوطن في أول فرصة تتسنى لهم.
           
لا يمكن لأحد أن ينكر أن البلدانَ العربية قد اِحترفت إقصاء أبنائها منذ فجر التاريخ، وفي المقابل احترفت الجزائر تصديرهم كبضاعة مزجاة، هذا الأمر جعل الشعب الجزائري اليوم -وأخص بالذكر الشباب- في حالة نفسية أقل ما يمكن القول عنها أنها محطمة بالكامل. فهذا الشعب قد عانى الكثير من المحن على مدار التاريخ وهذا دفعه أن يكبر بصورة هشة وحين زادت حدة الخطاب السياسي في السنوات الأخيرة وهُمشَ رأي الشباب بالكامل تزعزعت بنيته بالكامل ولم يجد بدا سوى من المضي إلى حبشة الضفة الأخرى أين يتواجد العدل الذي لا يُظلم في حضرته أحد.
                

موجة النزوح التي حصلت في عالمنا العربي في السنوات الأخيرة كانت هروبا حتميا من الموت، لكن لابد من أن نمعن النظر في الوضع حين نجد أن الناس تمضي في موعد مع الموت فقط للهروب من وطن!

لم يسعف الحظُ المتآمرين لإثارة الفتنة في الجزائر، ولم تُصب الجزائر بأنفونزا الثورات العربية التي اجتاحت المنطقة رغم المحاولات العديدة من الأطراف العديدة لنقل العدوى لهذا البلد، فللجزائر رب يحميها وثورة واحدة تكفيها، هي ثورة اتحد فيها جميع الجزائريين وجميع الأفراد وجميع الطوائف وكل الشعب ضد عدو ومستعمر واحد واستطاعوا أن يزحزحوه -وإن كان هذا الأمر نسبيا- عن بلد أثار أن يعيش في الحرية بدلا من الذل والهوان.

أتحفظ على بعض العبارات في الفقرة السابقة و قد لا أعني بالكامل ما قصدت، لكني أترك للقارئ حرية الغوص وقراءة ما بين السطور، وهذا يعود إلى أن الأوضاع الحساسة التي نعيشها هذه الأيام قد تضعنا في دائرة الحظر وتتم مصادرتنا مثلنا مثل أي رعية لا تعجبُ قصائدَه الحاكمُ فيأمرُ بضرب رقبته.
           
لابد من الاعتراف أن الفساد قد نال من عقولنا بالكامل لدرجة تجعلنا نحوم في دائرة يأس مغلقة، فلا تكاد تجدُ جزائريًا إلا ويسكنه اليأس والقنط، ويعاني من مرض السكري و ضغط الدم، فالجزائر بجمالها ومكانتها وروعتها وقوتها لم تقوى على أن توفر لشعبها القاعدة التي يقوم عليها هرم ماسلو التسلسلي لاحتياجات الإنسان. وها نحن اليوم نشهد تصديرها لأبنائها نحو الخارج دون أي حسرة، صدرتهم على قوارب الموت وعلى قوارب اليأس وفي أنفسهم طمع لتحقيق ما تصبوا إليه أنفسهم، وربما طمعا في أن يعيشوا ما تبقى من سنوات حياتهم حياة محفوفة على الأقل بالكرامة.
           
يراودني هذا التساؤل منذ فترة طويلة، ما معنى أن يواجه الإنسان الموت في سبيل الهروب من وطنه؟ ما معنى أن يخاطر الإنسان بحياته ويعرضها للموت فقط.. ليهرب من وطنه؟ لابد من أننا نتفق جميعا في أن موجة النزوح التي حصلت في عالمنا العربي في السنوات الأخيرة كانت هروبا حتميا من الموت، لكن لابد من أن نمعن النظر في الوضع حين نجد أن الناس تمضي في موعد مع الموت فقط للهروب من وطن! سنقلب صفحة "الحراقة" دون أن نتطرق إليها حتى، وندلف إلى مشهد اصطفاف الألاف من الشباب أمام المركز الفرنسي عشية ذكرى ثورة التحريرية طمعا في الحصول على شهادة تسهل عليهم الانتقال إلى الضفة الأخرى. إن هذا المشهد يلخص ببساطة فشل الحكومة الحالية في تسيير هذا البلد. هو شهادة تحكم على أن السلطة الحاكمة قد فشلت فشلا ذريعًا في أن تضمن العيش الكريم لشعبها. وهو دليل قاطع يُثبت الإدانة على هذه الحكومة التي رمت بدستور هذه الدولة عرض الحائط في سبيل اِرضاء غرورها وجشعها.
           
لابد من أن نتوقف عند هذا الحد فلا يمكن للكلام في كل الأحوال أن يرسم المعاناة الداخلية التي يعيشها كل فئات المجتمع الجزائري وأفراده في ظل هذه الأوضاع بدقة، ولكن بإمكانه نوعا ما أن يبين حدود الدوافع التي جعلت الناس تراهن على هذه القرارات الحاسمة. فلا يسعنا سوى الاعتراف أن الوضع الحالي والمعاش لم يمنح للجزائري سوى فرصة أن يمضي مهاجرا من هذا الوطن دون أن يلتفت يوما إلى الوراء، فلا يملك من رحل من هذا الوطن فكرة العودة ذات يوما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.