شعار قسم مدونات

سوريا الفيدرالية.. أكذوبة تقسيم أم مشروع وحدة؟

blogs - روسيا و سوريا
كَثُر تداول مفهوم الفيدرالية منذ أن طرحه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريفكوف كجزء من الحل السياسي المرتقب للأزمة السورية، وترافق مع هذا التداول انقسام في وجهات النظر حول هذا المفهوم، ففي حين نظر له البعض بوصفه منتج صهيوغربي يهدف لتفتيت المنطقة وتقسيم المقسّم، رآه القسم الآخر كأسلوب لإدارة الدولة بطريقة لامركزية تساهم في التنمية وتضمن حقوق الشعب بمختلف مكوناته القومية والدينية.
في الواقع إن كلتا النظرتين مبرّرة ومفهومة حيث يرى أصحاب النظرة الأولى في الفيدراليّة تهديداً لمفهوم الوحدة الوطنية الذي ركّزت عليه معظم القيادات السياسية المتعاقبة منذ استقلال الجمهورية ليومنا هذا، (نظريّاً) فإن فكرة الفيدراليّة تتعارض مع الرؤية النمطية لمفهوم الوحدة الوطنيّة، ويمكن فهم هذا التعارض من خلال الإطلاع على أدبيّات التاريخ الحديث الدّارجة في الشارع السوري مثل قصص المجاهدين صالح العلي وسلطان باشا الأطرش، اللذين رفضا عروضاً فرنسية لإنشاء دويلات طائفية (علويّة، ودرزيّة) على حساب وحدة وسيادة واستقلال الأراضي السورية.

أما القسم الآخر فنظر للفيدراليّة على أنها آليّة لكسر احتكار السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بهدف إيجاد حلول لأزمتي الهوية والإدارة اللتان تظهران جليتين في سوريابعد سبع سنوات من الحرب الدامية. وبالتالي فقد اعتبر هذا القسم أن الفيدراليّة ضرورة ملحّة تهدف لإعادة تعريف الوحدة الوطنية على أسس جديدة يمكن أن تعزّز من مفهوم المواطنة وبالتالي تعزز من ارتباط الأفراد بالجمهوريّة الاتحاديّة.

في الواقع إن الانقسام بين النظرتين هو أمر طبيعي حيث أن المعارضين للفيدرالية يرون فيها منظومة غريبة لم يعهدوها يوماً، كما تراودهم الشكوك حول كون الفيدرالية وسيلة لتسهيل انفصال أو انسلاخ الأقاليم التي تؤهلها خصائص ديموغرافية وجغرافية معينة لذلك، أما المؤيدون للفيدرالية فيرون أن أمماً عظيمة قد وجدت في النظام الفيدرالي عقداً اجتماعياً لتنظيم حياة الأفراد وعلاقات السلطات ضمن الدولة ومن أبرز هذه الأمم الولايات المتحدة الأمريكية ، وروسيا الاتحادية، والكثير غيرهما.

التفاهمات الروسية - التركية - الإيرانية التي تجلت في مخرجات مؤتمر أستانا-٦ قد جعلت من تقسيم الأراضي السورية لمناطق نفوذ واقعاً لا مفر منه
التفاهمات الروسية – التركية – الإيرانية التي تجلت في مخرجات مؤتمر أستانا-٦ قد جعلت من تقسيم الأراضي السورية لمناطق نفوذ واقعاً لا مفر منه

بيئة لزيادة الانقسامات

لقد ساهمت التطورات على المستويين الدولي والإقليمي في زيادة حدة الانقسام في الرأي العام السوري ما بين مؤيد ومعارض لفكرة الجمهورية الاتحادية الفيدراليّة. فقد وجد كل من الطرفين حُججاً وأدلة جعلته أكثر تمسّكاً بوجهة نظره، حيث جاءت قضايا انفصال كل من كاتالونيا وكردستان لتدعم دعوى المعارضين، وفي المقابل كان البدء بتطبيق مخرجات مؤتمر استانا-٦ بمثابة حُجّة استخدمها المؤيدون.

أولاً: الاستفتاء الكاتالوني ونظرية الدومينو: وجد معارضو الفيدرالية حجّةً قويةً في الأزمة التي نشبت مؤخراً بين حكومة اسبانيا المركزيّة وحكومة إقليم كاتالونيا نتيجة لقيام الأخيرة بالاستفتاء على الانفصال مهددة بذلك الاتحاد الأوروبي ككل حيث يشير العديد من المحللين والصحفيين الغربيين إلى أن انفصال كاتالونيا سيشكل سقوط ”أول حجر في دومينو الأقاليم الاتحادية في أوروبا“ مما يعني تغيير خريطة أوروبا بشكل جذري مستقبلاً، وهنا يمكن آعتبار النموذج الفيدرالي التوافقي القائم على الهويات القومية أو الاثنية فاشلاً نسبياً، حيث يقوم المعارضون للفكرة باسقاط النموذج الكاتالوني على النموذج الكردي في سوريا.

ثانياً: استفتاء كردستان والدعم الإسرائيلي: وفي حين أن إقليم كاتالونيا بعيد جغرافياً إلى حد ما فإن إقليم كردستان العراق مجاور لسوريا حيث يعد سكان الأقليم امتداداً طبيعياً لأكراد سوريا مما يعني أن إستفتاء كردستان على الانفصال هو بمثابة إستفتاء على انفصال أكراد سوريا أيضاً، وهذا يدعم دعوى معارضي الفيدراليَة كونها تتعارض مع وحدة واستقلال وسيادة الأراضي السورية، خاصة وأن إسرائيل عدو السوريين الأول قد أظهرت دعماً كبيراً لفكرة قيام دولة قومية كردية في المنطقة.

إيجاد صيغة دولية توافقية مماثلة لأستانا-٦ بدون إشراك الإرادة الشعبية السورية بكافة أطيافها سوف ينتج بأحسن الأحوال اتفاقاً مماثلاً لاتفاق الطائف الذي شكل لبنان

ثالثاً: تطبيق مخرجات أستانة وتحول الأراضي السورية إلى مناطق نفوذ: إن التفاهمات الروسية – التركية – الإيرانية والتي تجلت في مخرجات مؤتمر أستانا-٦ قد جعلت من تقسيم الأراضي السورية لمناطق نفوذ واقعاً لا مفر منه، ومع أن الأطراف الثلاثة تركز على أن هدفها هو الإبقاء على وحدة واستقلال وسيادة الأراضي السورية، فإن جزأً من الرأي العام السوري ينظر لتلك الوعود نظرةَ شكّ وارتياب، ويرى أن الفيدرالية هي الضامن الوحيد للإبقاء على حدود سوريا ما قبل اندلاع الأزمة، أو بمعنى آخر يرى أن تثبيت مناطق النفوذ دستورياً هي الضامن الوحيد لوحدة واستقلال الأراضي السورية والتخلص من النفوذ الأجنبي أو الحد منه بأقل تقدير.

من المستفيد ومن المتضرر؟
على الصعيد الداخلي: لا بد وأن الأقليات التي تسكن مناطقاً تتمتع بدرجة عالية من التجانس الديموغرافي قد تجد مصلحتها في إدارة شؤونها الداخلية ذاتياً وقد يرجع هذا لاعتبارات تتعلق بالهوية والكفاءة الإدارية كما ذكرت سابقاً، كما أن الأكراد بلا شك سوف يمثلون الشريحة الأكثر رغبةً في الحصول على حق الإدارة الذاتي لاعتبارات مماثلة ولكن وفي حالة الأكراد يمكن أن نضيف اعتبارات جيواستراتيجية تتعلق بمجاورة إقليم كردستان العراق بدرجة كبيرة وبمجاورة الأقليات الكردية الموجودة في كل من تركيا وايران بدرجة أقل.

على الصعيد الدولي: يُلاحظ شبه تفاهم روسي أمريكي على فكرة الفيدرالية السورية، ويمكن أن نعزو ذلك إلى أن كلتا القوتين تمثلان نماذج فيدرالية ناجحة، كما أنهما تسعيان لإرضاء الأكراد الذين تعتبرهم الولايات المتحدة الحليف الأكثر فاعليةً في مواجهة ”الفصائل الإرهابية المتطرفة“، أما بالنسبة لتركيا وإيران فيمكن الجزم بأن موقفهما المتقارب والرافض للفيدرالية هو نتيجة لمخاوف تتعلق بالأكراد بالدرجة الأولى ، كما أن الرفض لمجرد الرفض يمكن أن يكون وسيلة للمناورة السياسية والاستفادة منه في المفاوضات اللاحقة.

بتقديري الشخصي فإن جوهر الخلاف لا ينبغي أن يكون حول شكل الحكم المستقبلي لسوريا، بل من الأجدى البحث في آلية انتاج منظومة الحكم الجديدة ، وفي الأطراف المشتركة في صناعة تلك المنظومة.

فلا يمكن أن يشكّل نظام الحكم حلّاً في سوريا (سواءً فيدراليّاً كان أم مركزياً) ما لم يأت على شكل مخرجات توافقية تنتج عن حوار سوري مُطوّل يشتمل على القوى السياسية الوطنية كافّةً بدون استثناء، وهو الأمر الذي لم تنجح أي من الجهود الدولية في تحقيقه حتى يومنا هذا.

لهذا فإن إيجاد صيغة دولية توافقية مماثلة لأستانا-٦ بدون إشراك الإرادة الشعبية السورية بكافة أطيافها سوف ينتج بأحسن الأحوال اتفاقاً مماثلاً لاتفاق الطائف الذي شكل لبنان الحديث وفي أسوأها يمكنه أن يتنج نسخةً أكثر دمويةً من عراق ما بعد صدام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.