وإن صح أمرٌ في سياق التاريخ فهو الطبيعة الفطرية للشعوب، هي دائماً تسعى لحريتها على عكس الأنظمة المارقة التي كشفت أخيراً نواياها وأصبحت تُجاهر بالعلن أنًّ بقاء سلطانها هو الأهم، ومن بعدهم فليمت الإنسان وتدفن الإنسانية، وتكم الأفواه وتبكي الأمهات. وليس بالغريب خطاب الطغاة بلغة موجه وبنهكة مؤصدة، فهو ذات الخطاب منذ تسعينات القرن الماضي، مغلفٌ بشعارات احترام حقوق الإنسان، والحرص على سلامتهم وتقاسم عقد الشراكة واستتباب للأمان، بيد أن الحقيقة بخلاف ذلك، فلا حياة لمن تنادي عندما تبكي الثكالى ولا وجود لمعتصماه عندما تغتصب العذارة، ولا مناجي لذاك الطفل من تحت الركام، ولا لأبي ولا حتى لأمي فتلك كلمات قد مضى عليها دهر من الزمن.
سبع سنوات عجاف مرت على السورين وقدموا الغالي والنفس حتى باتوا غير آبهين بحياتهم بعدما دمر نظام الأسد وحلفاءه معالم البلد |
ولم تعد تشير لمعنى الإنسان، فذاك عالم آخر ليس الذي نحن عليه، فقد كنا على ضلال أننا في عالم الحق، يسوده العدل، رأسه الفضيلة وقوامه الإحسان وجذوره ثمار الحب والتسامح وتقبل الآخر واحترام للذات، كل ذلك كان صرحاً من خيال فهوى في ثورة رسمت تاريخها الخاص لن تنتهي إلا ببلوغ غايتها ولا شيء آخر سيوقف هذا الطوفان، وحدهم السوريون من أشعلوا النيران ولن تخمد إلا بحرق طواغيت العصر وإرسالهم إلى مزابل التاريخ، وعلى الرغم من كل ما جرى وسيجري فلن يستطيع العالم بأسره أن يسكت صوت الحق، فكلما أسكتوا صوتاً نادى من وراءه آلاف الأصوات، هي الحقيقة الصابرة على ظلم قد استحكم بأيدي الملوك فلا حقيقة غيرها وما عداها أضغاث أحلام وأفكار وظنون.
لقد كشفت ثورة الكرامة في سوريا ضغينة أنظمة حاقدة على شعوبها، فتلك الجحافل من الجيوش غزت بمن بها احتمى، وحمت بعيون ساهرة أسداً غدا منزوع السلاح والسيادة، انتزعت أنيابه فلم يعد يقوى إلا على أبناء جلدته، فسكن الشر أوصاله وباع الوطن بأرخص الأثمان، وقتل وبطش ودمر وفتك بل تغلب على مفاهيم الشر وتجسد به فلم يعد يُعرف إلا بقاتل الأطفال وهل يعرف القاتل غير لغة السلاح؟
مليون شهيد بل يزيد ومن يصدق من لدينا من مغيبين، وتلك السجون قد غدت مقابر للأحياء سبع سنوات مرت، ومازال شعبنا الصامد لا يعرف طعم اليأس، اختصروا العالم في مساحة ضيقة وتكالبوا عليها فنهبوا خيراتها وتقاسموا ثرواتها بذريعة أننا إرهاب، وعندما يحدثونك عن الإرهاب، فلا يحق أن نسأل ما هو الإرهاب فالجواب الصريح هو كل من خالف قوانين العبودية وتمرد عليها، وطالب بالتحرر، عندها يكون الجواب، موتكم مقابل بقاؤنا.
ثورة أحدثت زلزال هي تاريخ بحد ذاتها وهي خارجة عن كل تاريخ مضى، سبع سنوات عجاف مرت على السورين وقدموا الغالي والنفس حتى باتوا غير آبهين بحياتهم بعدما دمر نظام الأسد وحلفاءه معالم البلد، واستجلب انتداب روسي إيراني بصبغة وحلة جديدة، وقدم لهم سوريا وثرواتها على طبق من ذهب، وشرد تسعة ملايين سورين وقتل في معتقلاته 60 ألف شهيد وما خُفي كان أعظم، تحالف مع شذاذ الأرض وأحيا دولاً قد انتهت لكنها عادت من بوابة سورية ونمت أحلامها فوق أجسادنا وأروحنا مازالت بعلقة بجدران مدننا المدمرة.
وبواقعية المشهد الحالي قد يبدو للناظر وللمتابع للواقع السوري، بان ثورة السوريين انتهت بعدما استطاعت روسيا إسكات فوهات البنادق باتفاق خفض التصعيد، وشرذمت وشقت المعارضة عبر منصات وهمية واستحكمت العنان بفصائل آستانة وجعلتها مطية لتحقيق رغباتها، ففي الأمس القريب، دق العالم أجراس النصر بدحر تنظيم الدولة في مكان عاصمته في الرقة ، وهم اليوم يريدون طمس معالم جريمتهم عبر تفعيل ملف الإعمار وتقديم مساعدات إنسانية لإسكات صوت السوريين ممن سولت لهم نفسهم وتنامي داخلهم مفهوم الثأر والانتقام.
مشهد ضبابي لم ينتهي بعد ولكن ماذا بعد تقسيم البلاد لمناطق نفوذ ومصادرة قرار الفصائل هل هذه النهاية التي يتوقعها الكثير، هل بهذه البساطة ستنتهي ثورة ليس لها مثيل في تاريخ الثورات. لا شك أن الدول التي اتفقت مؤقتاً على وأد وكسر إرادة السورين، بدأت تدرك أن لغة المصالح ليست ثابتة، وهي ذاتها المصالح التي ستقودهم للتصادم المباشر، فلم يعد بالإمكان بعد إعلان نهاية التنظيم أن تتجاهل الدول حس التنافس المفضوح في منطقهم المعلن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.