شعار قسم مدونات

ثورات خارج التاريخ

Blogs- syria
على عكس مجرى التاريخ يعتقد البعض أن ثورة السوريين هي كغيرها من الثورات التي وقعت كالثورة العربية الكبرى، وثورة 1920 إبًّان الانتداب الفرنسي، لكن بقراءة سريعة الفرق كبير وشاسع فما بذله السوريون على مدى سبع سنوات لا يعادل ما قدموه في تلك الحقب التاريخية، فحجم التضحيات لا تقارن لا من حيث المكان ولا من حيث الزمان ولا من حيث المعطيات.
                 
إنًّ ثورة 2011 هي بداية تاريخ جديد سطوره خطت بلون الدم الذي روى كل شبر لبقايا وطن بات يبهُت لونه ويشيخ ويكبر قبل أبناؤه. إنها ثورة قبلها ليس كما بعدها أظهرت الدول على حقيقتها وأسقطت دولاً متلونة كانت ترتدي أقنعة الديمقراطية لعقود، فتعالوا على شعوبهم بألسنة من لهب، وبالحديد والنار ضربوا إرادة حريتهم وقوضوا حقهم في تقرير المصير وسلطوا سلاح المال والجوع على رقاب الصغير والكبير وخلقوا ثورات مضادة بأيادي القريب والبعيد ، تحت رايات ملونة إحياء للأحقاد وتعذيباً للذوات وللضمير، حتى أنهم عاقبوا الأموات وغايتهم القتل من أجل القتل والفساد من أجل الفساد، بغية البقاء فوق صدورنا العارية التي واجهت نيرانهم بكل سعة للتأكيد على سلمنا الفطري.
       
وإن صح أمرٌ في سياق التاريخ فهو الطبيعة الفطرية للشعوب، هي دائماً تسعى لحريتها على عكس الأنظمة المارقة التي كشفت أخيراً نواياها وأصبحت تُجاهر بالعلن أنًّ بقاء سلطانها هو الأهم، ومن بعدهم فليمت الإنسان وتدفن الإنسانية، وتكم الأفواه وتبكي الأمهات. وليس بالغريب خطاب الطغاة بلغة موجه وبنهكة مؤصدة، فهو ذات الخطاب منذ تسعينات القرن الماضي، مغلفٌ بشعارات احترام حقوق الإنسان، والحرص على سلامتهم وتقاسم عقد الشراكة واستتباب للأمان، بيد أن الحقيقة بخلاف ذلك، فلا حياة لمن تنادي عندما تبكي الثكالى ولا وجود لمعتصماه عندما تغتصب العذارة، ولا مناجي لذاك الطفل من تحت الركام، ولا لأبي ولا حتى لأمي فتلك كلمات قد مضى عليها دهر من الزمن.
             
سبع سنوات عجاف مرت على السورين وقدموا الغالي والنفس حتى باتوا غير آبهين بحياتهم بعدما دمر نظام الأسد وحلفاءه معالم البلد

ولم تعد تشير لمعنى الإنسان، فذاك عالم آخر ليس الذي نحن عليه، فقد كنا على ضلال أننا في عالم الحق، يسوده العدل، رأسه الفضيلة وقوامه الإحسان وجذوره ثمار الحب والتسامح وتقبل الآخر واحترام للذات، كل ذلك كان صرحاً من خيال فهوى في ثورة رسمت تاريخها الخاص لن تنتهي إلا ببلوغ غايتها ولا شيء آخر سيوقف هذا الطوفان، وحدهم السوريون من أشعلوا النيران ولن تخمد إلا بحرق طواغيت العصر وإرسالهم إلى مزابل التاريخ، وعلى الرغم من كل ما جرى وسيجري فلن يستطيع العالم بأسره أن يسكت صوت الحق، فكلما أسكتوا صوتاً نادى من وراءه آلاف الأصوات، هي الحقيقة الصابرة على ظلم قد استحكم بأيدي الملوك فلا حقيقة غيرها وما عداها أضغاث أحلام وأفكار وظنون.
       
لقد كشفت ثورة الكرامة في سوريا ضغينة أنظمة حاقدة على شعوبها، فتلك الجحافل من الجيوش غزت بمن بها احتمى، وحمت بعيون ساهرة أسداً غدا منزوع السلاح والسيادة، انتزعت أنيابه فلم يعد يقوى إلا على أبناء جلدته، فسكن الشر أوصاله وباع الوطن بأرخص الأثمان، وقتل وبطش ودمر وفتك بل تغلب على مفاهيم الشر وتجسد به فلم يعد يُعرف إلا بقاتل الأطفال وهل يعرف القاتل غير لغة السلاح؟
        
مليون شهيد بل يزيد ومن يصدق من لدينا من مغيبين، وتلك السجون قد غدت مقابر للأحياء سبع سنوات مرت، ومازال شعبنا الصامد لا يعرف طعم اليأس، اختصروا العالم في مساحة ضيقة وتكالبوا عليها فنهبوا خيراتها وتقاسموا ثرواتها بذريعة أننا إرهاب، وعندما يحدثونك عن الإرهاب، فلا يحق أن نسأل ما هو الإرهاب فالجواب الصريح هو كل من خالف قوانين العبودية وتمرد عليها، وطالب بالتحرر، عندها يكون الجواب، موتكم مقابل بقاؤنا.

      
ثورة أحدثت زلزال هي تاريخ بحد ذاتها وهي خارجة عن كل تاريخ مضى، سبع سنوات عجاف مرت على السورين وقدموا الغالي والنفس حتى باتوا غير آبهين بحياتهم بعدما دمر نظام الأسد وحلفاءه معالم البلد، واستجلب انتداب روسي إيراني بصبغة وحلة جديدة، وقدم لهم سوريا وثرواتها على طبق من ذهب، وشرد تسعة ملايين سورين وقتل في معتقلاته 60 ألف شهيد وما خُفي كان أعظم، تحالف مع شذاذ الأرض وأحيا دولاً قد انتهت لكنها عادت من بوابة سورية ونمت أحلامها فوق أجسادنا وأروحنا مازالت بعلقة بجدران مدننا المدمرة.
                 

ثورة أصبحت عالمية ومحض اهتمام الجميع لن تنتهي إلا عندما ينظر الجميع لأبنائها ويقدمون لهم أحقيتهم بالعيش على مصالحهم السورية، وبغير ذلك لن يعم الهدوء
ثورة أصبحت عالمية ومحض اهتمام الجميع لن تنتهي إلا عندما ينظر الجميع لأبنائها ويقدمون لهم أحقيتهم بالعيش على مصالحهم السورية، وبغير ذلك لن يعم الهدوء
 

وبواقعية المشهد الحالي قد يبدو للناظر وللمتابع للواقع السوري، بان ثورة السوريين انتهت بعدما استطاعت روسيا إسكات فوهات البنادق باتفاق خفض التصعيد، وشرذمت وشقت المعارضة عبر منصات وهمية واستحكمت العنان بفصائل آستانة وجعلتها مطية لتحقيق رغباتها، ففي الأمس القريب، دق العالم أجراس النصر بدحر تنظيم الدولة في مكان عاصمته في الرقة ، وهم اليوم يريدون طمس معالم جريمتهم عبر تفعيل ملف الإعمار وتقديم مساعدات إنسانية لإسكات صوت السوريين ممن سولت لهم نفسهم وتنامي داخلهم مفهوم الثأر والانتقام.

                 
ولا يغيب عن ذهننا أن روسيا بدأت تلقي اللوم على أمريكا بتدمير الرقة فسارعت بتوجيه التهم متناسية انها من دمرت حلب وقتلت شعبها نهاية 2016. ويُضاف للمشهد هدوء جبهات القتال واستكانة الفصائل لشروط الدول الضامنة لتخفيف القتل روسيا وتركيا وإيران، والإجماع اليوم أن نهاية تنظيم الدولة في سوريا سيكون مصحوب بتسليم السوريين صك استسلام أخير لتلك الدول التي تسعى لفرض حل يضمن لها مصالحها ويبقيها في سوريا لعقود يعقبها أجيال عليها التأقلم مع طبيعة المرحلة المقبلة والتكيف معها مقابل أيقاف شلال الدم والعيش تحت وصاية وانتداب.
         
مشهد ضبابي لم ينتهي بعد ولكن ماذا بعد تقسيم البلاد لمناطق نفوذ ومصادرة قرار الفصائل هل هذه النهاية التي يتوقعها الكثير، هل بهذه البساطة ستنتهي ثورة ليس لها مثيل في تاريخ الثورات. لا شك أن الدول التي اتفقت مؤقتاً على وأد وكسر إرادة السورين، بدأت تدرك أن لغة المصالح ليست ثابتة، وهي ذاتها المصالح التي ستقودهم للتصادم المباشر، فلم يعد بالإمكان بعد إعلان نهاية التنظيم أن تتجاهل الدول حس التنافس المفضوح في منطقهم المعلن.
           
فروسيا التي تسعي اليوم لعقد مؤتمر الشعوب لتحقيق غطاء شرعي عن انتدابها لسوريا، الدول التي سمحت لها بقتل السوريين لن تعطيها حق التفرد بتقرير المصير أو بالحل الذي تريد، والسبب بسيط هو أن الدول ذاتها باتت تستشعر الخطر على مصالحها من الحلفاء أنفسهم، وأمريكا حتى يومنا هذا لا تبدي نيتها بتحقيق استقرار قريب بل على العكس بثت الحياة بملفات نائمة وأيقظت نار فتنة جديدة متمثلة بعرب وكرد، كما أن الدول الأوربية التي تترقب مرحلة إعادة الإعمار تعلم جيداً أن المال لن يقدم قبل تحقيق الاستقرار في سوريا المتمثل باعتراف وتمثيل مطالب السوريين. ثورة أصبحت عالمية ومحض اهتمام الجميع لن تنتهي إلا عندما ينظر الجميع لأبنائها ويقدمون لهم أحقيتهم بالعيش على مصالحهم السورية، وبغير ذلك لن يعم الهدوء وستنتشر النار وتوسع من دائرتها لتستمر بالمسير خارج سياق التاريخ لتحقق في نهاية المطاف أهدافها وغير ذلك لا حياة لمن يريد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.