شعار قسم مدونات

المتمعلّم.. العارف الواثق

Blogs- read

هناك ظاهرة اجتماعية تعتبر نوعاً من أنواع الثقافة الاستهلاكية تتمثل في ادعاء المعرفة والإلمام بكل شيء وذلك الانتقاد الاعتباطي الذي لا يستند إلى أي أساس أو مقياس من المنطق والواقع، وتملّص الفرد من واجبه المنوط به داخل المجتمع ليتدخل في أمور ليس له عليها سلطان. خارجة عن اهتماماته ولا تدخل في نطاق دائرته، يفسرها على هواه بمعزل عن الواقع.

          

وهو يجهل تماما حيثيات القضية والملابسات التي تحيط بها، المتمعلّم، أبو العرّيف، المستأسد، كلها ألقاب لشخصية واحدة، فقد يأتيك مثلا أحد هؤلاء الأفراد يحدثك عن الأزمات المختلفة التي تتعرض لها البشرية أو قضية تشغل الرأي العام طبعاً محوراً لحديثه ويسهب الرجل المتمعلّم ويطنب فتجده يشخّص الداء ويصف الدواء. فيتخيّل لك أنه منقذ البشرية من شر هذا الداء، يكون شيخ الجلسة دائما الذي يحسن تقديم نفسه بأنه مطل يعرف خبايا الأمور فهو خبير استراتيجي عندما تكون القضية سياسية نجده يفصّل في نظرية المؤامرة التي جاءت بها الطريقة الكركرية للجزائر وغدا خبير اقتصادي يناقش هبوط الدولار وقضية التضخم. وفي مجلس آخر نجده يشخّص في تردي الوضع التربوي الجزائري ويعطيك تفاصيل يراها دقيقة عن الوزيرة "بن غبريط" عن أصل والدها وجدها ويشرّح في الاستراتيجية التي ستتبعها لتنفيذ أجندتها، يمتلك معلومات سرية وتفاصيل لمجمل القضايا.

        

المتمعلّم يفهم كل شيء ويتحدث في كل شيء وعلى الجميع أن يسمعوا وينتبهوا وعلى أهل الاختصاص أن يخرسوا ففي حالة عارضه أحدهم سيجيب بكل ثقة. إن غد لناظره قريب يشكك في كل معلومة تصله من الغير دون أن يحمل نفسه جهد البحث عن الحقيقة ويعلّق على أحاديثهم ويستخدم أدّلة ومبررات وهمية وهكذا المتمعلّم في كل مجال له باع فمن المهم جداً لديه أن يدرك المحيطين به الحياة من وجهة نظره.

              

يلجأ المتمعلّم إلى التمسك ببعض المظاهر والقشور دونما الغوص في جوهر الأشياء وبذلك يقع في الانحراف الذي يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الاستهلاك الثقافي والهدر الكلامي.
يلجأ المتمعلّم إلى التمسك ببعض المظاهر والقشور دونما الغوص في جوهر الأشياء وبذلك يقع في الانحراف الذي يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الاستهلاك الثقافي والهدر الكلامي.
      

كما أن منصات التواصل الاجتماعي قد أبرزت في الساحة عشرات المتمعلمين فأصبحوا سكارى فتنة الأضواء يأتون بكل شاذَّةٍ ويفتون في كل شيء من أجل أن يحافظوا على عالم الوَهْم الذي يعيشون فيه على تلك المنصات والمنابر وكلهم قلقٌ وخوف من أن يرجعوا إلى عالم الواقع فيجدوا أنفسهم على حقيقتها صِفْرًا من العلم والمعرفة فتلك المواقع أصبحت بيئة حاضنة لهؤلاء مع ضحالة معلوماتهم ووفرة أوقات فراغهم، يستحضرني مثل ياباني يقول "من يعترف بجهله يعلنه مرة واحدة ومن يخفيه يعلنه مرات ومرات".

      

لكن واجبك القيمي يقودك للتعرف على هذه الشخصية التي صالت وجالت وشخصّت العلل ووصفت العلاج لها، وحين تفعل ذلك ستتفاجأ لا محالة إن لم تتملكك الحيرة لغرابة ما تلاحظ من أمر هذه الشخصية، وعطفا على هذا نقول أنه إذا لم تكن الأفراد محصنين بالمعارف المفيدة والأفكار النيّرة فإنها تلجأ إلى التمسك ببعض المظاهر والقشور دونما الغوص في جوهر الأشياء وبذلك تقع في الانحراف الذي يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الاستهلاك الثقافي والهدر الكلامي.

               

هذا الكلام عن هذا الصنف من الناس لا يعني بتاتا دعوتهم لعدم الاهتمام بقضايا المجتمع والأمة والمساهمة في إيجاد حلول لمختلف أزماته إنما لابد أن يكون كما قلنا في حدود الإمكانات المتوفرة وضمن الدائرة الاجتماعية المرسومة لكل فرد، ولأن التشدق بالكلام عن قضية أو أزمة والمتحدث عنها هو طرف في صنعها دون أن يدري هي الأزمة ذاتها. المعرفة هي عملية ديناميكية متحركة ولا يمكن الحصول عليها أو الوصول إلى مراحلها النهائية. وفي الختام أتساءل إن كانت مدونتي ستحظى بالقبول؟ بتأكيد سيجيبني المتمعلّم على ما سألت وما لم أسأل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.