شعار قسم مدونات

التعليم بالقدوة.. مواقف من حياة أبي وأمي

مدونات - عائلة أم أب أبي أمي طفلة

أبي رجلٌ لا يمكنني وضعه خارج دائرة الكمال فأنا أراه بعين الرضا وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة، فأبي رجل عِصاميٌ صنع نفسه بنفسه. أبي قدوتي ومرآتي في الحياة.. تعلّمت منه الخير كيف أفعله والشر كيف أدرأه دون تنظير منه ودون محاضرات طويلة وعريضة. أمي ربّـة بيت أكملت المرحلة الإعدادية لكن مثقفة، مارست الحياة بكل ما فيها من حلاوة ومرارة، أمي امرأة تستحق السجود لو أمرني الله، أمي وأبي رَبّياني وعلّماني بالمواقف.

 

الموقف الأول: كنت في العاشرة من عمري عندما قدِمَت إلينا امرأة أرملة في الأربعيناتِ من عمرها، جاءت وسيل من عبارات الشكر والدعاء على لسانها لأبي، دعت له بالخير حتى جفّ لسانها، لم أفهم لِمَ كل هذا.. سألتها أمي من تكون؟ فأجابت: لولا صدقات زوجك لقتلني الجوع أنا وأولادي. فهمت من هذا الموقف أن الصدقة تكون سِرًّا دون رياءٍ وتباهٍ فأبي لم يقل لنا يوما أنه يكفل هذه المرأة. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ". شكرا أبي على درس الصدقة المجرّدة من المـَنِّ والأذى.

 
الموقف الثاني: قبل سنوات دخلت في نقاش حاد مع أحد أقاربي، ومع كلمة تلو أخرى تطاول على أبي دون سبب ورشقه بعبارات بعيدة عن الأدب، فاض كأسي وثُرت واتصلت بوالدي وحمَلت له كلّ الكلام بما فيه من شتائم فأجابني ببرودة قاتلة: وماذا بعد؟ اقطعي النقاش وتعالي إلى البيت. انتظرت منه ردة فعل قوية فصعقني بحِلمه وصمته الذي أنهى به الموضوع ومرّ يوما على القصة حتى جاءه الشاتم معتذرا وقَـبِـل أبي اعتذاره.  الدرس الذي أخذته من أبي أنّ جمالية كظم الغيظ والعفو تكمن في كسب محبة الناس في الدنيا والأجر في الآخرة. حتى وإن بلغ كره أحدهم لنا أشدّه يجب علينا كمسلمين مؤمنين بالكتاب والسنة أن ندفع بالتي هي أحسن وأن يسبق حِلمنا غضبنا. قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". شكرا أبي على درس جمال العفو والتسامح.

 
الموقف الثالث: في موقف جميل جدا سادته الإنسانية والإيثار كنت صغيرة آنذاك لم أتجاوز الثانية عشر من عمري جاءنا خالي وهو محمل بالهموم والألم وكان بأمسّ الحاجة للمال، جاء شاكيا لأمي فهو يرى فيها الملجأ والقلب الكبير، كنت أتوقع من أمي المواساة فقط والتخفيف عنه بكلام مأثور ومطارحته البكاء لكنها فاجأتني بجمال صنيعها فقد أعطته قلادتها الذهبية الوحيدة التي تملكها آنذاك، قال تعالى: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ". شكرا أمي على درس الإيثار.

 

كان أبي ولا يزال يقضي حوائجه في سرية تامة ولا يُخبر سوى الراشدين من العائلة. وهو الأمر الذي تعلمته منه وذلك اتباعا لقول الرسول
كان أبي ولا يزال يقضي حوائجه في سرية تامة ولا يُخبر سوى الراشدين من العائلة. وهو الأمر الذي تعلمته منه وذلك اتباعا لقول الرسول "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"

 
الموقف الرابع: عائلتي بأكملها تعلم أنّني من عُشاق الشكولاتة الفاخرة لحدٍ بعيد جدا فمن يُحبني يُهديني لوحًا فاخرًا من الشكولاتة وأنا بطبيعتي الإنسانية أحب أن يشاركني أهلي في أكلها فنستمتع معا. كانت أمي الوحيدة التي تقول لي "لا.. أنا لا أحبها" عندما أعرض عليها قطعة، بقيت سنوات وأنا أعتقد أنّ أمي لا تحبها إلى أن تخرجتُ وتوظفتُ وقبضتُ أول راتب سألتها ماذا أشتري لها أجابتني "شكولاتة" فقلت لها مازحة منذ متى وقعتِ في حبها فبهرتني بإجابتها أنها تحبها منذ زمن بعيد، غير أنها آثرت أن آكلها أنا ظنّا منها أنّي أحبها أكثر. أخذت من أمي درسا عميقا في الحب، الذي يحب يتنازل عن أشياء يحبها من أجل من يحب، أمي لم تعطني يوما محاضرة عنه بل كانت تمارسه. شكرا أمي على درس التنازل الجميل من أجل من نحب.

 

أذكر جيدا ما تعلمته من أبي وأمي بالقدوة ولا أذكر إلّا القليل مما قرأته في المناهج التربوية، تلك الكلمات الباردة التي لا روح لها ولا تأثير. مارسوا الحب والسلام والأدب والذوق أمام أبنائكم

الموقف الخامس: ذات صباح من عام 2005 دخلتُ المطبخ لأشرب قهوتي فوجدت ورقة صغيرة تركها أبي فوق علبة حلوى مكتوب عليها: "ذهبت إلى المدينة الفلانية من أجل إكمال ملف دراستي في مصر.. ادعوا لي"، تفاجأت جدا ولا أحد من العائلة كان يعلم بهذا وعند رجوعه مساءً أخبرنا بالقصة كلها وعاتبناه على كتمانه، أبي لم يكتم سره لأنه يريد كتمانه فقط إنّما تطبيقا لحديث الرسول صلّ الله عليه وسلم "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإنّ كل ذي نعمة محسود"، وخاف لو أخبرنا قبل التأكد أن نذيعه نحن أولاده بين الناس لأننا كنّا صغارا، هذا موقف رويته وغيره الكثير، كان أبي ولا يزال يقضي حوائجه في سرية تامة ولا يُخبر سوى الراشدين من العائلة. والدرس الذي أخذته من أبي هو قضاء حوائجي دون تشهير حتى تتم فلا نعلم أي نفس حاسدة تتمنى لنا الشر. شكرا أبي على درس قضاء الحوائج سرا.

 

سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله صلّ الله عليه وسلّم فقالت: كان خُلقه القرآن. كان عليه الصلاة والسلام يعلّمنا بالممارسة أكثر من التنظير، تمعنوا في سيرته ففيها من الدروس ما تُخرج أجيالا جميلة الخُلق أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء.. وحبذا لو نأخذ من بستانها أزهارا نعطر بها حياة أطفالنا في مواقف تبقى راسخة في أذهانهم أبد العمر يواجهون بها الحياة بما فيها من كرٍّ وفرٍّ، دروس بالتطبيق وليس بالتنظير، بالأفعال لا بالأقوال، أن تقول لابنك كلمة أحبك وتعطيه الاهتمام، أن تحمد الله أمامه خير من أن تذكره بفضل الحمد، أن تعطيه نتيجة شكر الله على نعمه وماذا جنيت منه خيرا من أن ترمي عليه سيلا من الأقوال المجردة.

 
أذكر جيدا ما تعلمته من أبي وأمي بالقدوة ولا أذكر إلّا القليل مما قرأته في المناهج التربوية، تلك الكلمات الباردة التي لا روح لها ولا تأثير. مارسوا الحب والسلام والأدب والذوق أمام أبنائكم، تَـذَوَّقوا أمامهم الكتب فيصبحون قُـرّاء وتلذّذوا بالصلاة فيُصلُّون بتلذذ فالأب والأم هُم قائدا البيت وكل قائد هو قدوة. أبي أمي شكرا لكما..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.