شعار قسم مدونات

لهذا اعتزلي يا فيروز

blogs - فيروز
فيروز صاحبة الصوت الملائكي الساحر، الذي يغزو حواسنا بسلاسة ولطف وهدوء، يناسب بعذوبة ورقة عبر آذاننا فيمنحنا بهجة وطرباً ومتعة منقطعة النظير، يأخذنا لنسبح في عوالم أخرى مشبعة بالحنين مرصوفة بالأحلام والأمنيات، "عصفورة الشرق" القادرة على استخراجك حياً من باطن لهيب الحزن لترسلك طائراً فوق الغمام تتنسم عبير الأمل، "سفيرتنا إلى النجوم" الوحيدة الباقية من الجيل الذهبي للمطربين، "جارة القمر" المرأة الثمانينية التي لم يزد تقدم السنين على حبالها الصوتية سوى عمقاً وصفاء. 

فاجأت فيروز محبيها حول العالم بإصدار أول أغنية من ألبومها الجديد يونيو الماضي في ذكرى رحيل زوجها أو بالأحرى طليقها عاصي رحباني، فاستبشروا خيراً وسعدوا بعودتها لمعانقة أسماعهم بعد طول غياب، واستقبل الملايين حول العالم الألبوم الجديد بشغفٍ ولهفةٍ كبيرة، إلا أن العودة لم تكن في نظر كثيرين قوية كما يجب، خاب أمل كثير من المعجبين ولسان حالهم يقول "كسر الخواطر يا ولفي ما هان علي". واجه الألبوم الأخير موجة من الانتقادات، التي يصب معظمها في خانة التراجع الملحوظ في مستوى الكلمات، بالرغم من أن بعضها مترجم من أعمال أجنبية، ذلك المستوى غير المعهود عن السيدة فيروز خلال مسيرتها الفنية التي تزيد عن 50 عاماً. حمل البعض ريما رحباني ابنة السيدة فيروز وزر ذلك، وبأنها لم تكن على قدر مسؤولية حمل راية الرحابنة من بعد أخيها زياد وأبيها من قبل.

فيروز.. عليك أن تترجلي الآن من مركبة هذا الوسط المبتذل.. حتى تحافظي على جمال ما سبق.. حتى تحافظي على رصيد الحب الذي يحمله لك الملايين بدواخلهم

السيدة فيروز.. كبرنا ونحن نستمع ونستمتع بأغنياتك العديدة الجميلة، أطربتينا بـ(طريق النحل الطاير فوق الضو المكسور بيصير يرسم دواير يكتب على الهوى سطور) سحرت آذاننا وأنت تصدحين بـ(هنالك عند التلال التلال.. تنام وتصحو على عهدنا) و(يا عاقد الحاجبين على الجبين اللجين إن كنت تقصد قتلي قتلتي مرتين) وتمايلت أعطافنا مع (نحن والقمر جيران.. بيته خلف تلالنا) و(تأخرنا وشو طالع بالإيد حبيبي وسبقتنا المواعيد) وأنتصتنا إليك بلهفة وأنت تنشدين رائعة أحمد شوقي (يا جارة الوادي).. ونحن نتخيل أنفسنا (بين جفنات العنب والعناقيد تدلت كثريات الذهب) وشعرنا بالحزن وأنت تتغنين بـ(أزهرت جراح شعبي أزهرت.. دمعة الأمهات) و(سألوني شو صاير ببلدي العيد.. مزروعة عالداير نار وبواريد) أحسسنا بلوعة الفراق عندما غنيت (بيعز على يا حبيبي.. لأول مرة ما بنكون سوا) أشعلت حماسنا وأنت تتغنين بـ(الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان) و(سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب).. شكل كل ذلك الفن الراقي والمحترم لك عندنا رصيداً عظيماً من الحب والاحترام والتقدير.

فيروز.. لا يخفى ما آلت إليه الساحة الفنية اليوم من غناءٍ هابطٍ، غابت المفردة الرصينة وعزَّ فيه اللحنُ الشجي، فالساحة أصبحت اليوم مرتعًا لمبتذل الأغنيات. للأسف لم نعد في زمن الشعراء أصحاب الكلمات الرصينة والحس الفني المرهف، أمثال عاصي رحباني، سعيد عقل، جبران خليل جبران وغيرهم.. وسط غابت فيه الذائقة الفنية الراقية، لذا سيدتي فهذا الوسط لا يناسبك اليوم وأنت من الجيل الذهبي للعملاقة أمثال أم كلثوم، عبد الحليم حافظ وصباح وغيرهم.

تغير الجيل الذي كان قديماً يطرب للكلمات المنمقة والهادفة، وظهر جيل مختلفٌ تماماً يميل إلى الاستماع لساقط الأغاني من المطربات اللائي يرتدين كلما قل ودل، في وسط أصبحت فيه الأغاني المبتذلة سيدة الموقف. يؤسفني القول بأن عليك أن تترجلي الآن من مركبة هذا الوسط.. حتى تحافظي على جمال ما سبق.. حتى تحافظي على رصيد الحب الذي يحمله لك الملايين بدواخلهم، حتى تحافظي على مستوى رصيدك العظيم من الأغنيات العذبة التي ناهزت الألف أغنية.

فيروز.. كنا ومازلنا نلجأ لأغنياتك الخالدة لنرتقي بها فتوق أرواحنا التي أحدثتها أغاني هذا الزمن الهابطة.. نلجأ لصوتك لنغسل آذاننا من أدران الأغاني المبتذلة ونطرد عن مسامعنا سوء الكلمات الركيكة والألحان البائسة، نعول على أغنياتك القديمة ونحن (نلقاك في نجمة الصباح، في مبسم الزنبق الرطيب، في زرقة البحر في الأقاح).. لكي تقارعي العفن بالجمال، تكافحي القبيح بالحسن، الشيء الذي لا يستطيع جديدك من الأغاني فعله.. لذا اعتزلي ودعينا نستمتع بقديمك العظيم… فيروز (دايما بالآخر في الآخر.. في وقت فراق).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.