شعار قسم مدونات

حبة الأرز المبتسمة

blogs مقابلة عمل

هذا مقال عن حبة الأرز، ولكنه يبدأ بشريحة لحم. يسألك النادل في المطعم: كيف تحب شريحة "الستيك"؟ فتقول له: حمراء سُدس مطهوة (رير)، فهناك ست درجات لطهو شرائح اللحم. قال أحدهم: السبب في أن بعضهم يحب اللحم شبه نيء أن في أعماق الإنسان بقية من التوحش، فهو يحب اللحم النيء مثلما يحبه الأسد.. والكلب. ولست أومن بهذه النظرية. أنا أقول للنادل: طهو كامل، ولو احترقت.

 

وفي المطعم اللبناني يقدمون لك التبولة، والبرغل فيها صلب تجرشه بأسنانك. يقولون: هكذا يجب أن يكون، هكذا كانت جدتنا تصنع التبولة. يا أخي! جدتك كان يفاجئها الزوَّار فلا تنقع البرغل إلا دقيقتين. انقع برغلك جيداً، عافاك الله.

 

وذهبت إلى إيطاليا، وسيق بي بالسيارة نصف ساعة كي نبلغ مطعماً مشهوراً. في النتيجة الأرز آل دنتي. أي أنه أرز تحس به يتكسر تحت أسنانك. اللعنة! قمت عن المائدة وأنا أتفتف!

 

أتينا لحبة الأرز في النهاية. لا أحب أن تتكسر تحت أسناني، ولا حتى أن تكون لدنة لينة مثل المطاط. أحبها باسمة. منضَجَة إلى درجة أن تنفلق وتبدو كالثغر الباسم. وهذا حين أحدثك عن الابتسامة.

 

العابس ليس صاحب أريحية وفي النهاية سيظل شكاء متبرماً. وسيكون عنصر نكد.
العابس ليس صاحب أريحية وفي النهاية سيظل شكاء متبرماً. وسيكون عنصر نكد.
 

كان ابن الرومي شاعراً متجهماً، يكره حتى نفسه. لكنه أوصى الشعراء أن لا يمدحوا أميراً عابساً: (لا تَقْصِدَنَّ لِحَاجَةٍ/ إلَّا امْرَأً فَرِحَاً بِنفسِهْ // أَنَّىَ يُسَرُّ بِمَدْحِه/ من لا يُسَرُّ بِضَوْءِ شمسِهْ؟). الذي يظل مكشراً، لا يفرح بضوء الشمس ولا بالحياة، لا يعطي. الذئب لا يعطي قطعة من فريسته لذئب آخر.. فقط لجرائه الصغار. والإنسان يتميز عن الحيوان بالأريحية. وليس كل إنسان ذا أريحية، الأمر لا يتعلق بالطيبة ولا بالخلق الحسن، ولا بالتدين. هو شيء في الطفولة، هو شيء في الجينات، هو شيء في البيئة.

 

البدوي مضياف لأنه يعرف قسوة الصحراء على المسافر، وهو يتوقع المعاملة نفسها عندما يكون مسافراً. وابن القرية مضياف، لأنه سيحتاج إلى قمح جاره عندما يقتل الصقيع خَضراواته. وابن المدينة الكبيرة قد يسير على قاعدة "معك قرش فأنت تساوي قرشاً" فهو مقتصد. لكن التاجر قد يساعد التاجر، لوجود مصلحة متبادلة.

 

الابتسامة عنوان الأريحية، وهي إشارة الانعطاف نحو العطاء. ولدي قصتان أنا فيهما الشرير. كنت في إحداهما شريراً، وفي الأخرى شريراً جداً.

 

كان يعمل معنا في المؤسسة موظف ضعيف الأداء، وكنا نداري عليه ونصلح أخطاءه، وذات يوم تبرمت منه قائلاً لزميل آخر: يا أخي، لا أعرف والله كيف قد وظفوا مثل هذا الشخص! فابتسم زميلي وقال لي: المؤسسة كبيرة، وفيها متسع له. فكأنه ألقمني حجراً. نعم، لا بد من وجود شخص ضعيف القدرة قليل المهارة. المؤسسة كبيرة وعليها أن تتحمله. وعليَّ أنا أيضاً أن أتحمله. وهاك القصة الأخرى عندما كنت شريراً جداً.

 

كنت أعمل في مؤسسة صحفية، وعقدنا مجلس توظيف لاختيار شخص ذي كفاءة صحفية عالية. وبعد أن قابلنا المتقدمين للوظيفة واحداً بعد الآخر، بدأنا في التشاور. وبدأت عملية التحايل والمداورة. لا يريد أي منا أن يقول: فلان أفضل المرشحين. كل واحد منا يذكر فقط إيجابية عند فلان وسلبية عند فلان. عملية مألوفة في مجالس التوظيف للحصول على توافق تدريجي. وبدأت الأقوال تركز على "المرشح الإيطالي". (هو ليس إيطالياً بالمناسبة، هو فقط كان يقضي عطلة في إيطاليا، ولشدة اقتناعه بمهاراته عرض أن يأتي خصيصاً للمثول أمام المجلس). كانت مهاراته مميزة، وسجله طيباً. وتبرعت أنا بسؤال شرير: هل لاحظتم شيئاً؟ هل انتبهتم إلى أنه خلال المقابلة التي دامت أربعين دقيقة لم يبتسم مرة واحدة؟ وضحك الجميع، وهزوا رؤوسهم. أتممت مداخلتي الشريرة: شخص لا يبتسم لن يكون معطاء. لقد تسببت في خسارة صاحبنا لتذكرة طائرة.

 

قد تجد في المؤسسة موظفاً عابساً، لا يبتسم، وتجده مع ذلك جاداً عالي الإنتاجية، لكنه ليس معطاءً. ستراه يدخل مراراً إلى غرفة المدير ليطلب العلاوات، أو ليوضح لحضرة المدير أنه يشتغل أكثر من غيره. العابس ليس صاحب أريحية. وفي النهاية سيظل شكاء متبرماً. وسيكون عنصر نكد.

 

هناك الابتسامة الصفراء الساخرة بمرارة، وهي مقبولة من امرأة فقدت وظيفتها، لكنها مرذولة من شخص لا تحدثه عن أحد إلا ابتسم ساخراً قبل أن يبدأ بالتعريض. ولا أسوأ من ابتسامة الشماتة
هناك الابتسامة الصفراء الساخرة بمرارة، وهي مقبولة من امرأة فقدت وظيفتها، لكنها مرذولة من شخص لا تحدثه عن أحد إلا ابتسم ساخراً قبل أن يبدأ بالتعريض. ولا أسوأ من ابتسامة الشماتة
 

الابتسامة أنواع. هناك ابتسامة المجنون، وهي ابتسامة جميلة، ومجنونة مثله. وابتسامة الأريحي الذي ينسى كل مصائبه ويقابلك بابتسامة، هكذا فقط يكون السيد الحق. وجهه يرحب بك قبل مائدته. وهناك ابتسامة المجاملة، وهي جميلة من صديق، ومقبولة من مضيفة الطائرة. فإن بادلت المضيفة الابتسام فأنت أبله. هذه الابتسامة مدفوعة الثمن، المضيفة تعلم ذلك وأنت تعلمه.

 

وهناك ابتسامة المنافق، وقد تضطر إلى الرد عليها كما فعل المتنبي، فعندنا صار ود الناس خداعاً، يبتسمون ويحملون الخناجر خلف ظهورهم "ردَدْتُ على ابتسامٍ بابتسامِ". وهناك الابتسامة الصفراء الساخرة بمرارة، وهي مقبولة من امرأة فقدت وظيفتها، لكنها مرذولة من شخص لا تحدثه عن أحد إلا ابتسم ساخراً قبل أن يبدأ بالتعريض. ولا أسوأ من ابتسامة الشماتة.

 

وأخيراً هذا تعبير ألماني يصف حالة معينة. لقد فوجئت اللغة الإنجليزية بأنها لا تملك تعبيراً يصف هذه الحالة، فما كان منها إلا أن أخذت التعبير الألماني كما هو.. (شادِن فرويدِهْ). ومعناه حرفياً: السعادة بالضرر. وتفسير الحالة أنك تسمع أن زميلك في المكتب تلقَّى إنذاراً من المدير. فتحس بسعادة في قلبك. فهل في اللغة العربية تعبير يصف هذه الحالة؟ أهي الشماتة الخفيَّة، أم الشماتة الخفيفة؟ أم هي الشماتة الصامتة؟ ما رأيكم؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.