شعار قسم مدونات

عندما يصبح رغيف الخبز أمنية

blogs - أطفال سوريا والبحث عن خبز
عندما توقفت السيارة التي تقلنا في أحد الطرقات الداخلية لقرية من قرى غوطة دمشق الشرقية التي ترزح تحت حصار قاس منذ سنوات لم أدر من أين جاء كلّ هؤلاء الأطفال الذين تحلّقوا حولنا عندما نزل السائق أبو صلاح الذي يقلنا ليوزّع على بعض الأسر بعضاً من أكياس الخبز التي أحضرها معه من دمشق.

كانت عملية بطولية تشبه أحداث أفلام (الأكشن) سيارة تسير أكثر من خمسة كيلومترات ليلاً بدون أضواء على طريق ترابيّة لا تدري ماذا تخبئ لك تضاريسها الوعرة، فمن المتوقع أن يرصدك كمين معادٍ لشبيحة الأسد وتنتهي مغامرتك إمّا ميّتاً أو أسيراً في معتقلات الأسد تتمنى الموت، وربما ترصدك نيران صديقة تظنّ أنك عدو يتسلل خلف خطوطها، ولو كانت على علم مسبق بأنك قد تصل بين ساعة وأخرى، ففي الظلام يحصل كل شيء، ومن يدري، وربّما يصطدم أحد إطارات السيارة بحجر كبير يسبب لك مشكلة، أو تنزلق السيارة في حفرة تتوقف معها عن الحركة فينكشف أمرك مع بزوغ الفجر، كلّ هذا مع احتمال عدم القدرة على العودة ثانية إلى دمشق إذا ظهرت بوادر تأزم على خطوط التماس، فهل تستحق هذه المهمة المجازفة مع كلّ هذه المخاطر وغيرها.

أن تُدخِل إلى منطقة تعاني من حصار ظالم يمنع عنها دخول كيلو من الطحين أكثرَ من مئة كيس خبز يكفي كلّ واحد منها إطعام أسرة ليوم أو يومين يستحق المخاطرة في قناعة السائق أبي صلاح ابن تلك المنطقة الذي يعيش في دمشق والذي كان يقول: إنّ هذا العمل لا يقلّ أهمية بل ربما يفوق من حيث الظرف والتوقيت عمل من يحمل البندقية في الرباط على الثغور، وخصوصاً إذا علمت أنّ بعض هذه الأكياس تذهب لهؤلاء المرابطين.

undefined

لن أنسى ما حييت أبداً تلك النظرة في عيون الأطفال وهم يتابعون يد السائق التي تحمل كيس الخبز لتنقله إلى يد رجل أو امرأة، كانت حدقات أعينهم تدور وتنتقل بين يديه وبين ربطة الخبز كأنما تتابع لعبة كرة، ولولا الحياء لخطفوا أحد تلك الأكياس وهربوا به بعيداً، وليكن بعد ذلك ما يكون.

لم أر أحداً ممن أخذ كيس خبز دفع للسائق مالاً، هل يقدّم السائق الخبز للناس من غير مقابل بعد هذه المعاناة في نقله إلى هنا؟ عندما سألته قال مغضباً: مالك ولهذا، هل ينقصك شيء لو لم تعرف!

تجرأ أصغرهم سناً بالطلب المقترن بحرقة المستعطف: (عماه أعطني كيساً) ربما كانت هذه قمة الشجاعة في نظر باقي الأطفال، ولكنّ المؤلم بالأمر أنّ السائق لم ينتبه لصوته الصغير وهو منشغل مع الكبار الذين كان يحاول بعضهم أن يأخذ أكثر من كيس، اضطر الصغير لأن يعيد طلبه مرة ثانية: (عماه أعطني كيساً) قال السائق وقد انتبه إلى صوت الصغير: يا عمو الآن يأتي والدك ليأخذ حصتكم، قال الصغير: والدي لا يأكل الخبز، إنّه في الجنة يأكل الموز، قالت والدتي إنّه لن يأتي أبداً، لقد سبقنا إلى الجنّة، وقالت أيضاً: هناك في الجنّة لا يوجد بشار، ولا يوجد حصار، ولا يوجد قصف ولا صواريخ ولا يوجد شبيحة يذبحون الأطفال.

لم أستطع أن أمنع دمع عيني وأنا أتابع المشهد الذي قطعه صوت امرأة تسأل السائق أبا صلاح: هل أحضرت معك الدواء الذي طلبته منك؟ قال السائق: لا أدري لقد أحضرت معي كيس دواء، انتظري قليلاً ريثما انتهي من توزيع أكياس الخبز لأرى. هممت أن آخذ كيس خبز من الأكياس التي كانت ما تزال بقربي داخل السيارة التي توزّعت أكياس الخبز في جميع أنحائها، ولكنني خشيت أن يشجّع ذلك باقي الأطفال، أو ربما يغضب السائقُ أبو صلاح الذي ربما كان يوزّع الخبز وفق ترتيب معين.

لم أر أحداً ممن أخذ كيس خبز دفع للسائق مالاً، هل يقدّم السائق الخبز للناس من غير مقابل بعد هذه المعاناة في نقله إلى هنا؟ عندما سألته قال مغضباً: مالك ولهذا، هل ينقصك شيء لو لم تعرف!
قطع صوت الطفل للمرة الثالثة شرودي: (عماه أعطني كيساً) تناول السائق أبو صلاح كيساً وهو يسأل الطفل: ابن من أنت؟ قال الطفل: أبي الشهيد فلان. توقف أبو صلاح لحظة أبوك فلان؟! وبدأ المسير مفسحاً المكان للأولاد الذين تقدموا خطوات مقتربين من السائق الذي فتح كيس خبز وبدأ يوزّع عليهم رغيفاً رغيفاً، وهو يقول: يا عمو هناك من ينتظرنا في الحارة التالية.

ما إن وصل رغيف الخبز إلى يد الطفل الصغير حتى جمعه على بعضه وبدأ يقضمه بنهم، بينما أسرع آخر إلى ليعود بعد ثوان مع أخته الصغيرة ثمّ وقف بعيداً وهو يشير إلى مكان السائق.
فتح السائق باب السيارة بيده اليسرى بينما كان يناول الأطفال بيده اليمنى آخر رغيف في الكيس، تهادى على كرسيه قائلاً: والد هذا الطفل كان رئيس البلدية الذي انشق أول أيام الثورة منحازاً إلى أهله وثورتهم لقد مات مديناً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.