شعار قسم مدونات

ثلاث سنوات يا أبي

مدونات - ذكريات قهوة تأمل

بعد مضي أشهر من تلقي ذلك الخبر بدأت تظهر الآثار الجانبية على كيان العائلة وبدء الدرع الذي يحميها بالتهاوي بعد أن رحل بانيه، عندها أدركنا حجم الواقعة وصرنا نلملم ونحزم ما تُرك لنا من ثبات وقوة لنبقى واقفين على أرجلنا صامدين أمام عثرات الحياة.

 

هناك على تلك الأريكة كان الوقار الذي أتباها به أمام الزائرين، وعلى سجادة الصلاة تلك كان خشوعه وتضرعه، هناك في تلك الزاوية كنا نجلس معه أنا وإخوتي بعد صلاة الفجر ليُقرئنا القرآن، هناك على ذلك المكتب كنت أراقب الحكمة والورع في كتاباته أو قراءاته وعلى ذلك الحاسب كان تعلمي لأولى مهاراتي فيه على يديه.

 

في وجهه السمح تجمعت معاني الفضيلة وفي لحيته تلك قصة لحياة ملتزم التزم بدينه ومبادئه منذ نعومة أظفاره وألزمني بها، تلك الخصل التي بدأت تشيب تحكي قصص رجل أربعيني أدى ما أمره الله به في هذه الدنيا ثم ارتحل، جبينه العريض ذاك رواية لشموخِ رجلٍ عظيمٍ راسخ جابه الظلم ونصر العدل.

 

ثلاث سنوات يا أبي وحيرتي لم تغادرني ولم أغادرها، ثلاث سنوات يا أبي قد مضت وكأن الحياة حلم فمتى سأنفض عني غبار التهم وأستجمع تلك اللبنات التي أورثتني إياها لبناء ما تطلعت له.

 

أقول لمن خسر هذه النعمة العظيمة والعطية الثمينة "عوضك الله"، أما لمن أنعم الله عليك ببقائها فصنها وأعطها حقها، لا تنهره أبدا واخفض له جناح الذل من الرحمة

صدى ضحكاتك ما زال يعبر أرجاء البيت وصدى نصائحك وكلمات رضاك ما زال يعبر أرجاء ذاكرتي ويعصف بها، جلستي معك وعتابك لي في ذلك المساء كانت خاتمة الحكاية واختصاراً لها، وخبر ارتقائك في اليوم التالي كان عنوان الكتاب .

 

وعلى وقع ذلك الخبر تصدع كياني كما فؤادي، وعندما رأيت للمرة الأولى دموع جدي أدركت هول المصاب وعندما سمعت نواح الجدة وأنين العمات أيقنت الخراب وعندما سمعت عمي يقول "كُسر ظهري" انكشف الضباب، وعندما رأيت حال أمي.. تهاويت وفُقد الصواب، وعندما رأيت قسمات وجه أبي المستلقي بان الأمر وزال الحجاب.

لعلني يا أبي أكون بعدها ذلك الولد الصالح الذي يدعو لك ويصل أهل ودك ويرث صفاتك ويصون سمعتك ويلتزم وصاياك.. ويكمل دراسته، فإن ملت يا أبي يوماً عن ما أوصيتني قومتْني كلماتك وإن قصرت عن ما تركتني عليه جاءني طيفك معاتباً فعوضت تقصيري، وإن ضعفت لوهلة فسرعان ما أستمد من ثباتك وإني الآن صابرٌ يا أبي عاملاً بما أوصاني به الله طامعاً بأجره حين قال عز وجل "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" مردداً ما أمرنا به "إنا لله وإنا إليه راجعون".

 

أقول لمن خسر هذه النعمة العظيمة والعطية الثمينة "عوضك الله"، أما لمن أنعم الله عليك ببقائها فصنها وأعطها حقها، لا تنهره أبدا واخفض له جناح الذل من الرحمة ففاقده يتمنى الآن لو يعود مرة واحدة فقط ليُقبل يده ، أو ينام وعيناه مغرورقتان يتمنى لو يقابله في المنام علَّ ذلك اللقاء السرابي أن يخفف الغم الذي في باطنه ويزيل كربه العظيم .

فيا نسائم تلك الروح أكثري المجيئ ويا طيف ذلك الحنون كن حاضراً دائماً بيننا، فإن وقفت دموع العين عن النزول فدموع القلب تهطل مع كل ضخة دم وكما قال الشاعر المتنبي:
إن غاب عني فالروح مسكنه..
من يسكن الروح كيف القلب ينساه؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.