شعار قسم مدونات

كربلاء.. ملحمة تحرير الإنسان

blogs - camels
قضايا التاريخ الحاسمة لا تحب السرد الأدبي، تنحاز دائما لنقل الحدث حسبما تداوله الباحثون، تبتعد دائما عن التراجيديا العاطفية، وعن الانحياز القبلي. هنا، كان كما سموه أهلها، يوم كر و بلاء، فوق التراب دماؤه الحمراء، وتحت التراب جسده الطاهر، وفي أنفس الناس روحه وما تبقى منه، قضية يعيش بها الإنسان حتى موته.
في مثل هذه اللحظات، الغوص في التفاصيل يبعدنا عن المعنى، والغرق في تصفية الروايات المتناقلة تحيدنا عن بوصلة الحدث، وما أعظمه من حدث، ثورة إنسانية أمام بطش الحاكم، وأطروحة دولته. كان الحُسين يريد أن ينتشل الاُمّة من جمودها، يحرّكها للثورة ضدّ الكيان الاُموي الجاثم على السّلطة، وكان لا بدّ له من تضحية، ولا بدّ من دم شريف يُراق، ليحدث الانقلاب في نفوس القوم الذين خذلوا قضيته وما زالوا يخذلون.

الحسين لم يكن ثائرا فحسب، كان راية، يقف وراءها كل من رأى الحق واختاره، كل من عرف الطريق وسلكه، طرق المقاومة والنضال، حتى لو كانت هذه الراية مهزومة في وقتها. الحسين كان حالة تحرر شامل، رغم كل القيود التي كانت معه، أهله ونسائه، إلا أنه كان يعرف أن الأمر سينتهي به مقتولا، وربما سينكلون بأهله بعده، لكنه لم يتراجع عن قضيته، ليكون رمزا للتضحية من أجل التحرر.

لم يخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرج لطلب الإصلاح في اُمّة جدّه التي رأى فيها بطش بني أمية، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، فقد خرج الحُسين في مهمّة رسالية فرضتها عليه ظروف المرحلة، مرحلة السّيطرة الكاملة والسّافرة للمجرمين وأعداء الشّعوب على الاُمّة.
"هيهات منّا الذلة" كانت صرخة الرفض، تذكرنا بنداءات رفض النبي صل الله عليه وسلم الأولى أمام قريش، قالها في وجه من عرض عليه بيعة يزيد، ليترك في قلوب الناس، أن كل بيعة لظالم أو سكوت عنه هي ذلة لا تُقبل.

كربلاء قدمت للإنسانية درسا في التحرر والتضحية، وفي الثورة والنضال، وفي الوعي المنبثق من صدور الناس، وأرادت أن تترك لها، روحا يعيش بها كل حر في العالم

كان شعار الحُسين بكربلاء الحرّية، ولذلك معنى عميق يدرك باستيعاب الحدث وفلسفته. انطلق وهو ينادي القوم "إن كنتم لا تؤمنون بالله ولا تخافون الميعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم إن كنتم عرباً كما تزعمون".
قضية الحُسين هي بالإضافة إلى كونها قضية إسلام وجاهلية، فهي في أصلها قضيته حرّية، إذ إنّ الذين طلبوه ثمّ خذلوه، كانوا يفتقدون للحس التحرري. التحرّر من كلّ ما يفقد الضمير يقظته، ويعكّر المعاني والقيم في النّفوس، لقد فقدوا حرّيتهم أمام دُنيا يزيد واستعبدهم بطشه، فافتقدوا الإرادة وافتقدوا معها الحرّية.

هذه المعركة لم تكن تعبّر حتّى عن الذهنية العربيّة وقتها، وعن عصبياتها المتقاتلة حينها، فمعارك العرب أكبر من أن تجمع بين جيش جرّار وفئة قليلة من النّاس، وهي أسمى من أن تجمع بين شبيحة وبين عصبة تنتمي إلى بيت الشّرف.
كان الحسّ القبلي طاغياً على الحسّ الغنيمي عند العرب، والفضيلة غالبة على كلّ الاعتبارات الاُخرى، فهذا القدر من الحرّية افتقده جيش يزيد، وبالتالي كانوا يحتاجون إلى أكثر من قفزة للوصول إلى مستوى الخطّاب الإسلامي، فهم في حاجة إلى حرّية ولو في صبغتها العربيّة.

كان الحرّ بن يزيد أحد أبرز عقلاء الكوفة هو ذلك النموذج، النموذج الذي اختار التحرر، الرجل الذي ذهب ليساير الحسين ويرده عن أمره، والإحساس بالتحرّر كان لا يزال حيّاً في أعماقه، فالحرّ بن يزيد أدرك أنّه أكثر تحرّراً من أن يمنعه القوم المجرمون عن نصرة الحُسين، ومهما بطش يزيد وتجبّر، فإنّه لا يملك أن يسلب الحرّية ممّن وطّن نفسه على الكفاح، ليستقبل بعدها الموت بصدر وسيع.

مدرسة كربلاء، قدمت للإنسانية درسا لا ينتهي، في التحرر والتضحية، وفي الثورة والنضال، وفي الوعي المنبثق من صدور الناس، هذه المدرسة أرادت أن تترك لها، روحا يعيش بها كل حر في العالم.
الحسين وكربلاء، ليست قضية يمتلكها أصحاب دين ومذهب معين، هي قضية يمتلكها فقط الأحرار، مهما كانت معتقداتهم وأفكارهم، فكم مِن مَن يلطمون الحسين، هم يزيديون أكثر من بني أمية، انتصر يزيد وقتها لكن الحسين هو من بقي حيا في قلوب الناس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.