شعار قسم مدونات

فلسفة الحرية في فكر "علي عزت بيجوفيتش"

blogs علي عزت بيجوفيتش
بادئ ذي بدء، من يكون علي عزت بيجوفيتش؟

هو الرئيس الأول للبوسنة وقائدها السياسي وزعيمها الفكري والروحي -كما يصفه عبد الوهاب المسيري- هو الناشط السياسي والفيلسوف والمفكر الإسلامي، تولى رئاسة جمهورية البوسنة (١٩٩٢-١٩٩٦)، وهو أول رئيس للمجلس الرئاسي البوسني (١٩٩٦-٢٠٠٠)، والذي أفرزته حرب البوسنة واتفاقية دايتون.

ولد بيجوفيتش لأسرة عريقة في تاريخ الإسلام بالبلقان، درس القانون وعمل مستشارًا قانونيًا لفترة من الزمان. بدأ نشاطه السياسي وهو في الثانوية، حيث أسس مع زملاءه (جمعية الشبان المسلمين)، مما عرضه للتضييق من قبل النازيين إبان احتلالهم للاتحاد اليوغسلافي، وبعد سقوط النازية استولى الشيوعيون على الاتحاد اليوغسلافي، وفي ظل التضييق الذي مورس على المسلمين، استمر نضال بيجوفيتش السياسي والفكري مما عرضه للاعتقال لعدة مرات.

ترك لنا بيجوفيتش تراثًا فكريًا وفلسفيًا مميزًا، حيث تميزت كتاباته بالوضوح والدقة والعمق، وكان من ذلك كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) والذي يعد من أهم كتب الفلسفة والفكر الإسلامي، وأيضًا له كتاب (البيان الإسلامي) الذي جاء ردًا على كتاب (البيان الشيوعي) الذي أصدره كارل ماركس، مما أدى لاعتقاله من قبل الشيوعيين آن ذاك، وحوكم بالسجن لمدة أربعة عشر عامًا، قضى منها خمس سنين، عُرض عليه خلالها أن يوقع على استرحام يخرج بموجبه من السجن، بشرط أن يوقف نشاطه الفكري والسياسي، فأبى إلا أن تظل الروح طليقةً، ويظل الفكر عصيًا على التركيع.

 

كتاب هروبي إلى الحرية  (مواقع التواصل)
كتاب هروبي إلى الحرية  (مواقع التواصل)

كتب خلال تلك السنين الخمس كتابه العجيب (هروبي إلى الحرية)، وضع فيه بيجوفيتش عصارة فكره وخلاصة أفكاره وفلسفته، فجمع فيه حشدًا هائلًا من الأفكار والملاحظات والمعلومات عن شتى مناحي الحياة، وتأملاتٍ في شتى المواضيع السياسية والفكرية. فكان هروبه حسب وصفه هروب (الفكر والروح)، ولم يكن هروبًا حقيقيًا بقدر ما كان هروبًا ثقافيًا وأدبيًا، لذلك صدّر كتابه بمقولة هاينريش بيل (الأدب هو الحرية)، فقد وجد في الأدب آفاقًا تهرب إليها الروح، في ظل ما كان يعانيه من "نقصٍ في المكان وفائضٍ في الزمان".

اكتشف نيوتن بأن الجاذبية هي القانون الأساسي الذي يهيمن على العالم المادي، وكيف "يكون القانون الأساسي الذي يهيمن في العالم الأخلاقي؟ أعتقد بأنه قانون الحرية، فما تشكله الجاذبية في العالم المادي هو ما تمثله الحرية في العالم الأخلاقي"

بيجوفيتش

كانت الحرية هي القضية المحورية في فكر بيجوفيتش، فهي أساس الأخلاق وشرط الإيمان وجوهر إنسانية الإنسان، فرأى أسبقيتها على كل شيء فيقول: "أسبقية الحرية، ليس ضروريًا إثباتها بشيءٍ من خارجها، فهي تؤكد ذاتها بذاتها".

"الدكتاتورية غير أخلاقية، حتى عندما تمنع الحرام! والديمقراطية أخلاقية حتى عندما تسمح به!"

بيجوفيتش

يستنكر بيجوفيتش على سلطة المجتمع مثل ما يستنكر على سلطة الدولة، من تدخلات هاتين السلطتين في حدود سلطة الضمير الإنساني

في منظوره الأخلاق لا تنفصل عن الحرية، فالسلوك الحر هو السلوك الأخلاقي، والدكتاتورية عندما تنفي الحرية، فإنها تضمنت نفيًا للأخلاق، لأنها تنفي حرية الإرادة وحرية الاختيار لكي نفعل أو لا نفعل، ولأن العمل عندما يكون بدون نية مسبقة ورغبة في القيام به، فإنه لا قيمة له من وجهة نظر بيجوفيتش، وكذلك من وجهة نظر الدين (إنما الأعمال بالنيات) (والنية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها -كما أجمع عليه علماء الشريعة-)، فالدين عندما يخير بين الرغبة والسلوك، وبين النية والفعل، فإنه ينحاز إلى النية والرغبة كما يقول بيجوفيتش، فالجوع الإجباري ليس صومًا، كما أن الخير الإجباري ليس خيرًا، لانعدام النية والرغبة، ولهذا كان الإمام محمد الغزالي يقول "الحرية أساس الفضيلة" وكانت حرية الاختيار في فكر بيجوفيتش "هي شرط كل الشروط.. لكل دين ولكل أخلاق"، وكان يرى أن نفي حرية الاختيار وممارسة الإكراه، ستنتهي بثورة عليه حتمًا.

"على كل مجتمع إنساني أن يكون مجتمعًا للأفراد الأحرار، عليه أن يحدّ من عدد قوانينه وتدخلاته"

بيجوفيتش

يستنكر بيجوفيتش على سلطة المجتمع مثل ما يستنكر على سلطة الدولة، من تدخلات هاتين السلطتين في حدود سلطة الضمير الإنساني، فنظرته لسلطة المجتمع -بعاداتها وتقاليدها وضغوطاتها المعنوية- لا تختلف عن نظرته لسلطة الدولة -بقوانينها وعقوباتها-، فكما أنه يرى أن القوانين تقييد للحرية، يرى أن الثقافة الاجتماعية -قانون المجتمع- هي عنف ومناهِضة للحرية حسب تعبيره، لذلك كان يرى أنه على هذين السلطتين أن تحافظ على حرية الاختيار بين الخير والشر، لكي يفعل الناس الخير ليس لأنهم مرغمون وإنما لأنهم يريدون.

وعليهما ألا يقفا حجر عثرة أمام حرية التفكر وحرية التعبير، لأن غيابهما يفقد الإنسان جوهر إنسانيته ويؤدي إلى غياب الأفكار الخاصة، وسيهرب الناس من تطوير الأفكار والمشاعر التي لا يمكنهم التعبير عنها، أو التي تمثل عبئًا أو خطورة.. وهنا يتسائل بيجوفيتش: هل يمكن تصور الناس بدون أفكار؟ وإلى أي مدى هم لا يزالون بشرًا؟!

"يعجبنا أن يكون الإنسان مشرعًا لذاته، والعكس لدى الإنسان الملتزم بالقانون، يعجبنا الفعل نفسه، ولا يعجبنا الإنسان!، لأنه يطيع والإطاعة أحد منظورات اللاحرية"

بيجوفيتش

يبدي بيجوفيتش إعجابه بالإنسان الذي يتمتع بقوانينه الخاصة، والتي تعبر عن ذات الإنسان، ويبدي إعجابه بالالتزام بالقانون ويصف الفعل بالأخلاقي، ومع هذا ليس من الضرورة أن يكون كل عاقل ملتزم بالقانون هو إنسان أخلاقي، لأن الاستقامة الشكلية في منظوره قد تكون نابعة من خلال الخوف أو العادة والتأقلم، والتأقلم والتماهي مع أي قانون وأيًا كان مصدره هو نفي للحرية الشخصية، ويرى أنه (إكراه لما يجب عليك أن ترغبه). والعادة ليست أخلاقية، فكلما اتسعت مساحة العادة في حياة الإنسان، تقلصت مساحة الحرية وانعدمت الاستقلالية، وعندما تستبد العادة وتطغى.. فإنها تستعبد الإنسان وتعبث بإنسانيته. وإذا كانت العادة هكذا فالخوف أقل منها.

إن الحرية مرتبطة بالمسؤولية ارتباطًا لا يقبل الانفكاك، فالمسؤولية تدور مع الحرية وجودًا وعدمًا، أي أن الإنسان حر مخير لكنه مسؤول عن تصرفاته
إن الحرية مرتبطة بالمسؤولية ارتباطًا لا يقبل الانفكاك، فالمسؤولية تدور مع الحرية وجودًا وعدمًا، أي أن الإنسان حر مخير لكنه مسؤول عن تصرفاته
 

لكن ما هو المعيار الذي من خلاله يمكننا أن نحكم بأخلاقية الإنسان حين يمارس القانون؟ في منظوره (الممارسة الواعية وحدها الأخلاقية)، فالوعي أثناء الممارسة وعند الالتزام وعدم الالتزام هو المعيار الأساسي لأخلاقية الإنسان من عدمها.

ومما سبق، يرى بيجوفيتش أن القوانين الخارجية -سواء كانت مفروضة من الدولة أو المجتمع-، هي تقييد سلبي للحرية، فهل هناك قانون ذاتي يقيد الحرية تقييدًا إيجابيًا؟ ويرى بيجوفيتش أن الحرية مرتبطة بالمسؤولية ارتباطًا لا يقبل الانفكاك، فالمسؤولية تدور مع الحرية وجودًا وعدمًا، أي أن الإنسان حر مخير لكنه مسؤول عن تصرفاته، فالإنسان عنده لا يمكن أن يكون إلا (كائنًا حرًا مسؤولًا، ولا شيء يحط من قدره أكثر من الادعاء بعدم مسؤوليته)، فهو إن أحسن يثاب وإن أساء يحاسب. فالمسؤولية التي تنبع من الوجدان ويفرضها القانون الأخلاقي لدى الإنسان، هي التي تضبط الحرية الإنسانية، وتبقيها ضمن دائرة التقنيات الأخلاقية، وإلى هذا ذهب جمعٌ من الفلاسفة، وهو الصحيح من منظور الفكر الإسلامي وإليه أشار العلّامة محمد عمارة في كتابه (مفهوم الحرية في مذاهب الإسلاميين).

وفي الختام.. هل الحرية حق وضرورة منحها الله للإنسان؟ أم أنها مكرمة يتفضل بها الإنسان على أخيه الإنسان والحاكم على المحكوم؟ وكيف السبيل إلى تحقيقها؟ أيستجدى الحق ويطلب أم أنه ينتزع انتزاعًا؟! يقول علي عزت بيجوفيتش: أي حرية من فوق بالمراسيم غير ممكنة، وليست حقة.. الحرية لا تعطى إنما تؤخذ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.