شعار قسم مدونات

جنة تمشي على الأرض

blogs - mother
بينما أخطُّ أولى كلماتي هنا، تجلس أمامي كالقمر-وأخشى أن أقول لها ذلك فتأخذَ على خاطرها غيرةً!-، ما ألبث أن أسَطّر كلمةً على حاسوبي الشخصي حتى أشيحَ بوجهي نحوها، أتأملُّ جمال وجهها وحُسنَ حديثها، أطوف في سُبُحات وجه جنّتي، وكأن كَرَمها هذا لا يكفي، بل وتُرسل نسائمَ حُبّها وحنانها فتلمس أركاني المضطربة فتكنّ النفس وتطمئن، في نظري هي أجمَلُ النساء، يقول الرافعي: " الطفلُ يُقلّب عينيه في نساءٍ كثيرات، ولكنّ أمّه هي أجملُهن وإن كانت شوهاء، فأمُّهُ وحدها هي أمُّ قلبه".
 
تسعةُ أشهرٍ لبثتها في أحشائها، خُدعت بقول الناس أني خرجت لأرى النور، كنتُ أُصدّق هذه الترهات لمدة من الزمن، لكن ما أُصَدّقُه اليوم مختلفٌ تماماً، ما أنا مُتّيّقّنٌ منه الآن أني خرجت لدنيا مظلمةٍ، وعالمٍ يعجُّ بالوحوش، فكانت هي الضياء الذي أهتدي به في سفر الدنيا الموحش، وحضنها هو ملجئي الآمن، أشعر وأنا في حُضنها بأنّ نسمات حنينها قد هبّت وحملت إلى فؤادي لواقحَ الأمان والسكينة، فطبعت على فؤاديَ المسكينُ قُبلةً أنبتت "حدائق ذات بهجة" في صدري، حدائقٌ مخضرّة ليتها مثلُ بساتينِ صدرها، تمتلئ بأزهار فوّاحة بالحُب، وأشجارٍ ظلالها الرحمة، وأنهار تفيض بالحنين، فبثّت الورود عِطرها في كُل مكان حطّت فيه، وأرسلت عبائقَ السعادة في القلوب، وآتت الأشجار أُكُلها على أولئك الذين يستظلّون بظلّها، وارتوى من مائها كُل عطشان لشراب الإنسانيّة أو بالأحرى كُلُّ عَطِشٍ لشراب الطفولة العذب الذي نحنُّ إليه في كُل حين.
 
أحنُّ من أحنِّ أمٍّ، همهماتُ روحي كانت تفهمها، تعابير وجهي كانت تقرؤها، خفايا نفسي كانت تعلمها، سألتُني ذات مرة، يا لها من امرأةٍ خارقة، كيف لها كلُّ ذلك؟! أجبتُني لاحقاً:"يا لسذاجتك، لو كُنت في جُزر الواق واق وأصابكَ مكروهٌ لشعرت هي بذلك ولتألّمت وهي في موضعها هنا! أين الغريبُ في ذلكَ؟ أنتَ اقتطعتَ جُزءاً من لحمها ودمها أفيغيب عنها ما بكَ وأنت في حضرتها؟!"
 

الزم قدميها فثمّ الجنّة، واعلم أنك وما بذلتَ في سبيل إرضائها أو تسديد حقّها، فلن تؤدي ذلك ولو بزفرةٍ واحدة! وقد رويَ عن الحسن البصريّ أنّه قال: النظرُ إلى وجه الأمّ عبادة، فكيف برّها؟!
الزم قدميها فثمّ الجنّة، واعلم أنك وما بذلتَ في سبيل إرضائها أو تسديد حقّها، فلن تؤدي ذلك ولو بزفرةٍ واحدة! وقد رويَ عن الحسن البصريّ أنّه قال: النظرُ إلى وجه الأمّ عبادة، فكيف برّها؟!"
 
أولئك الذين يعتبرون هذا من السخافات التي كبروا عنها، إن الإنسان حتى وإن كَهُلَ سيبقى في نظر أمّه طفلاً، تعشق دلاله وملاطفته، فلا تحرمها من ذلك أيها المُهَرطِق! لا تُذقها العلقمَ! ما حرمَتك ولو للحظةٍ من عطفها، سهرت عليك في سقمك، وجذلت لفرحك وتقطّعت روحها لحُزنك، وسال الدّمع على خدّيها المتوّرد في فَرَحِك، واختلطت سعادتها بحُزنِها، فشعرت أن قطعةً من روحها قد انتُزعت بلا استئذان ولا رحمةٍ لتمضي سنّة الحياة في التزاوج، وماذا جازيتها بعد أيها الفحل؟ أنسيت بهاء العِشرة ورونقَ الحياةِ في كنفها؟ من أجل من؟ من أجل زوجةٍ أعمتك اللذائذ عن اختيار من هي أحسنُ منها؟ "الدنيا متاعٌ وخيرُ متاعها الزوجةُ الصالحة" فأحسن اختيارك لمن تُلزِمُكَ قدمَ أُمّكَ الرّؤوم وإن جاوزتَ العشرين أو الثلاثين أو ما فوقَ ذلك. زوجتُك كالسِّلاح، فلا تستلَّ سلاحاً يُرفعُ على أمّك، فتُطلق رصاصةً نافذة إلى القلب تُدمي روحها فتزرعُ شوكةً من الكآبة في طريقك وأنت بجهلك غيرَ مستوعبٍ أو مُدركٍ لما جرى!
 
ذلك الوحش الذي سيأتي، والذي أرجو من الله -عز وجل- أن يأتيني قبل أن يأتيها، ذاك الذي لا يستأذن أحداً، فإن جاء التهمك ولو ملكتَ الدنيا، ذاك الذي لا يحُدِثُ أيّ ضجّةٍ، يأتي بهدوء ويرحل بخفّة، يأتي لمهمّة واحدة، هي اطفاء "شهابٍ قبسٍ" من المحبّة والأُلفة كنّا نصطلي به، ونتسامر في رِحابه.
 
قد أكونُ أنانياً، فقد دعوتُ ربّي في كثيرٍ من الأحايين أن يقبض روحي قبل روحها، فألم فراق جنّةُ الدنيا والآخرة لا أحتمله ولا حتى عُشْرَهُ، أَتقوى العينُ على بكاءٍ كالماء المنهمر؟ أم هل يحمل القلب نفسه على الصبر على مواجعِ الروح؟، أما أمي فقد تحتمل كلُّ ذلك، وربّما لا! لكنّي لا أريد، كلّا، لا أريد أن أكون من يذوقَ مرارة الفراق، ويَعِشْ قلبُه ليالٍ دامسة، وتبيّض عيناه من الدّمع، اغفري يا أمي استئثاري لنفسي، ولكنّ الله يفعل ما يشاء "إِنِ الحُكمُ إلا لله".
 
وفي ختام الحديث، أوصيك أخي القارئ أختي القارئة بجنّةٍ رضا المولى في رضاها، وقد عدّ الحبيب عليه الصلاة والسلام برّها من أحب الأعمال إلى الله، قُبلة على ناصيتها كُلّ صباحٍ ومساء لا تكفي، إنّما برّها بالعمل الصالح والدعاء لها، والزم قدميها فثمّ الجنّة، واعلم أنك وما بذلتَ في سبيل إرضائها أو تسديد حقّها، فلن تؤدي ذلك ولو بزفرةٍ واحدة! وقد رويَ عن الحسن البصريّ أنّه قال: النظرُ إلى وجه الأمّ عبادة، فكيف برّها؟!"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.