شعار قسم مدونات

بين ثورة وجهاد ضاعت البلاد

مدونات - سوريا الثورة حزن بكاء
لعل من أعتى الأمراض التي ولّدتها أنظمة الحكم الظالمة المستبدة في مجتمعاتنا التعنت والإقصائية تجاه الغير، على مذهب القطب الواحد الرافض لكل مخالف؛ ما كان له انعكاسه الواضح حتى في ثورات الشعوب ضد جلاديها، فلعل كثيرين ممن ثاروا لم يضعوا محددات قويمة للمبادئ التي ثاروا لأجلها أو للمفاهيم التي وجب تغيرها ونزع جذورها من مختلف نواحي حياتهم، الأمر الذي ألقى بظلاله على عملهم الثوري فانحرف بهم بادئ ذي بدء من حيث لم يظهر كبير انحراف.
 
 لكن الأمر تفاقم مع ديمومة المرض وباعتبار طول الأمد، ومن ناحية فقد كان للطغاة والمستبدين في خضمّ ثوران الشعوب تأثير عن بعد عمل على تأجيج روح السلطوية والأفكار المريضة في نفوس العامة، ما يشكل الوسط المناسب لبقاء استبدادهم أو عودته ولو بعد حين؛ فالمجتمعات السليمة القائمة على أسس راسخة، والمنضبطة بؤطر صحية راقية بما يناسب الحق ويرفض الظلم بكل أشكاله، هي أوساط لا تناسب البتة وجود أولئك الطغاة الظلمة كما لا مجال فيها لنمو الاستبداد وبقائه، بل سرعان ما يتلاشى ويضمحل تلقائيا وتموت بذوره.
 

لقد جاب مرض التعنت والإقصائية نواحي الثورات وضرب أطنابه في شتى النحل والتيارات؛ مؤذنا بحرب فكرية مقيتة جهلت الشعوب المكبوتة لعقود والمحجور عليها تحت وطأة الطاغوت عواقبها ومآلاتها الخطيرة، فالأمر في بدايته كان ضعيف الأثر طفيفا غير معتبر، فما أبصر عاقبته إلا قليل من بعيدي النظر، لكن سرعان ما بدأت تتكشف ملامح تشرذم وفرقة من خلف كواليس تلك الفصائليات وراح يطفو على السطح خلاف وشقاق هاج بمراكب تلك الثورات، ليصطدم أبناؤها بحروب فكرية عابرة للقارات ضربت أطنابها بينهم فزادت عليهم ويلاتهم ويلات، لم تكد الشعوب الثائرة ترتشف شيئا من رحيق الحرية بعدما طالت بهم عقود العبودية ليعود أبناؤها أسرى لدى نزعات حزبية وفكرية، مكبلين تحت توجهات سياسية ومشاريع فصائلية، وكل يدعي وصلا بليلى فيما يسقط مخالفه بتهم وصفات تختلف من حيث الألفاظ والعبارات فيما فحواها جميعها التخوين.

تنبه شباب الثورات لخطر الفصائلية التي حل وبالها عليهم فيما لم يبال آخرون بخطر ما انتابهم؛ جراء تدرج أرباب التيارات الفكرية على اختلافها في تلقين رسالاتهم وبث أفكارهم
تنبه شباب الثورات لخطر الفصائلية التي حل وبالها عليهم فيما لم يبال آخرون بخطر ما انتابهم؛ جراء تدرج أرباب التيارات الفكرية على اختلافها في تلقين رسالاتهم وبث أفكارهم
 

على الرغم من الاتفاق على الهدف ووحدة الغاية والتي جمعت هذا الشعث ورفعها ضمن شعارته كل ذلك الشتات؛ من إسقاط للأنظمة المستبدة ورفع للظم وترسيخ للعدل، لكن كان تركيز الجميع منكبا على مواطن الخلاف ومواضع الفرقة، يثيرونها في كل محفل، ويبثونها في رؤوس شباب غشهم الجهل، صادعة بها منابرهم الإعلامية، ناشرة فحيحها بياناتهم الرسمية ليتغلل سمها الزعاف بين الصفوف موضعا خلالها الفتنة والضعف؛ حتى حمل الأخ سلاحه في وجه أخيه الذي شاركه ثورته وهمه ونصبه وعاش معه الأيام العصيبة والمحن الشديدة، كائلا له التهم والأوصاف التي باتت تشكل الذريعة في حربه والتغلب عليه.

تنبه نذر من شباب الثورات لخطر الفصائلية التي حل وبالها عليهم فيما لم يبال آخرون بخطر ما انتابهم؛جراء تدرج أرباب التيارات الفكرية على اختلافها في تلقين رسالاتهم وبث أفكارهم ثم الشروع بعدها في زرع الأحقاد والضغائن؛ حتى انتزعت الخلافات الفكرية المؤدلجة وعضدها في تأثيرها من الجهة المقابلة مؤامرات سياسية وأراجيف دولية اشترت ذمم كثيرين، طهرت الفطرة من رؤوس الشباب وزرعت مكانها أحقادا داخلية عمّية، على الرغم من تبني الكل شعارات إسلامية، و ادعاء الجادة الحق الحنيفية؛ ليجانبوها بمخالفتهم أمر الشرع الذي أمرهم بالاجتماع والاعتصام، و نبذ الفرقة والخصام بقوله الله في القرآن العظيم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) فتفرقوا وتشرذموا.

لم تفشل ثورات الربيع العربي ولم تنطفئ جذوتها، فمنها ما لا يزال حر جمرها متقدا تحت الرماد، ومنها التي ما فتئت تتقد وزيتها من ثبت من أبنائها غير مبال بغيره ممن ركن ووهن، لكن انحراف شريحة واسعة من شباب الثورة عن مسارها وتفريطهم في البوصلة أضاع زخما واسعا من الجهود والطاقات في غير محلها وأعطى للطغاة المجال ليلتقطوا أنفاسهم ويشرعوا من جديد من حيث لم يفتروا ولم يكلوا في حربهم الشعواء ضد العدل والحق والحريات بغية معاودة إخضاع الأمة التي لها في عمق التاريخ نبراس لم ينطفئ وعز لا يزال مفخرة الأحفاد، أمة علت وارتقت حينما اجتمعت، وخارت قواها واستحكمها جلادوها حينما تفرقت وانبرى أبناؤها حروبا داخلية ومناكفات عبثية فرقت الحزمة إلى عيدان سهل قضمها منفردة حين شتات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.