شعار قسم مدونات

كلام في الشريعة والقانون

blogs - إمام يقرأ القرآن
دائماً ما نسمع من فوق منابر الجمعة ومن على كراسيِّ العلم في بلاد المسلمين مواعظٓ في الإيمان والتقوى ودروساً في الأخلاق وقيم الحياة المثلى وفي شتى فروع الدين، ترغيباً حيناً وترهيباً حيناً آخر؛ لكنْ قلما تجد من يحث على وجوب احترام القانون وهو الذي تحيط بنا مقتضياته وتحاصرنا إجراءاته في أدق تفاصيل حياتنا اليومية: في البيت وبين الناس، في الشارع والنادي ومقرات العمل، في الأرض وفي جو السماء؛ ينظم علاقاتتا أفراداً ومؤسساتٍ في الاقتصاد والسياسة والحياة عموما ونحتكم إلى قضائه عند الخصومة والنزاع نطلب حقاً أو ندفع مظلمة. 

إن هذا الجفاء الواعيَ بين "حماة الشريعة" من فقهاءٓ ودعاةٍ ووعاظٍ وبين "أسياد القانون" من سياسيين وقضاة وإداريين وغيرهم مرَدُّه لعمري إلى وسم القانون بالوضعي حيث يضعه نواب عن الأمة أكفاءٌ مؤهلون نعم، لكن تتجاذبهم مصالح الحزب الضيقة ويغريهم بريق السلطة وألق الحكم في غير منأىً عن مكر السياسة وسلطة المال؛ بينما الشرع منزَّلٌ منزَّهٌ عن ذلك، يستنبط أحكامَه من أدلته التفصيلية علماءُ مجتهدون تغلب على ظواهرهم صفات التقوى والورع في معزل تام عن فتن الحكم ونفوذ أصحابه.

هو كذلك منذ تأسست الدول الإسلامية الحديثة عقب جلاء المستعمر وتبنت حكوماتها – ولو نظريا- نُظُمَ الديمقراطية وآلياتِها في التشريع والإدارة والقضاء، حاملةً معها إرثاً ضخماً من القوانين والمراسيم والقرارات التي صدرت إبان فترة الاستعمار من سلطة غريبةٍ عن الأمة منفصلةٍ عن شريعتها السمحة وتراثها الفقهي الزاخر. لقد رحل الغريب الثقيل عن الدار بعد مكابدة وجهاد، لكن لم يبرحْ أولو الأمر بعده مفتتنين بحداثته العقلانية وتفوقه العلمي، واقعين في دائرة تأثيره باختيارهم أو مرغمين.

لا يُعقٓلُ من مسلم رفضُ القانون الحديث جملة وتفصيلا أو التحايلُ على عدم الوفاء له والالتزام به بدعوى كونِه موضوعاً من قبل بشر أو بدعوى مخالفته لحكم من الشرع صريح
لا يُعقٓلُ من مسلم رفضُ القانون الحديث جملة وتفصيلا أو التحايلُ على عدم الوفاء له والالتزام به بدعوى كونِه موضوعاً من قبل بشر أو بدعوى مخالفته لحكم من الشرع صريح

فلم يكتفوا بعدم تنقيح تركته القانونية لتلائم شرع الإسلام وتماهيَ عقيدةَ الشعب الذي هو مصدر السلطة، بل نبذوا وراء ظهورهم كلَّ الشرع ومعه طرائقَ الاجتهاد المتوارثة والتي يُشهَد لها بالنبوغ والابتكار والدقة والحرفية، إلا ما كان من قوانين الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث وما شابه فلم تبرحْ حضنَ الشريعة الدافئ استثناءً وحيداً وكأن مجالات الجزاءات والتجارة والعقار والمعاهدات وغيرها لا يسعها عدل الشرع الحنيف ولا اجتهادات فقهائه المتمرسين!

إن إقصاء الشرع من دائرة تدبير الشأن العام وعند صياغة القوانين تحديداً بدعوى الحداثة وإكراهات العصر وبسببٍ من طغيان الفكر المتحرر اللاديني عند النخب الحاكمة غالبا ما يتِمُّ التلطيف من قسوته مراعاةً لضمير الشعب وتكريساً لوحدته العاطفية بالنص في وثيقة الدستور على مكانة الإسلام كدين للدولة تارة أو على وجوب ملاءمة التشريعات لمبادئ الشرع الحنيف ومقاصده تارة أخرى. شيء جميل! لكنْ أجملُ منه تفعيلُ هذا المقتضى الدستوري العالي في مراقبة القوانين المعروضة على المصادقة وإعادة قراءة ما قد سبق تمريره منها في غفلة من الزمن وفي إتاحة الطعن في دستوريتها أمام قضاء حر كفء ونزيه.

ثقافة احترام القانون لا غنىً عنها لبناء الدولة ونهوض المجتمع، وهي في جوهر الدين ومن صميمه، علماً بأن ثمة عملا دؤوبا منتظراً لردم الهوة بين القانون الحديث وأحكام الشريعة السمحة

إن هذا الأمر إذ يحتاج إلى إرادة سياسيةٍ صادقةٍ لربط حاضر الأمة بماضيها والتصالح مع هويتها ودينها- الذي هو عصمة أمرها- لهو الكفيل في نظري بإعلاء شأن القانون في نفوس المواطنين المسلمين خاصةً بجعله جزءاً من شريعتهم التي يدينون بها، فتكونُ مراعاته قربةً إلى الله وحسنة وتكون مخالفته معصيةً لله وسيئة ويجري بالتالي على مقتضياته مفهوما الحلال والحرام اللذان لا تخفى خطورتها في ضمير المسلم ووجدان المواطن المؤمن.

هذا وإن كانت بعض القوانين غيرٓ مستوحاة من شرع الإسلام أو مخالِفةً لأحكامه في بعض تفاصيلها فإنها في عمومها تتوخى المصلحة وتجلب المنفعة وهذا من صميم الدين. فلا يُعقٓلُ من مسلم رفضُ القانون الحديث جملة وتفصيلا أو التحايلُ على عدم الوفاء له والالتزام به بدعوى كونِه موضوعاً من قبل بشر أو بدعوى مخالفته لحكم من الشرع صريح.

أما وضعه من بشر فلا ينفي التشريعَ عن الله أصالةً وإنما هو اجتهاد يقوم به نواب الأمة في مجالاتٍ شاسعةٍ من الحياة وفروعٍ شتى من الفقه ليس فيها نص قطعي صريح من كتاب أو سنة، بل تقودهم في ذلك فقط مقاصد الشرع السنية وقيمه النبيلة في العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد ورفع الحرج وغير ذلك. وأما مخالفة القانون لحكم الشرع كما في العقوبات ومعاملات الأبناك وبعض العقود وغيرها فمدعاةٌ بلا شك إلى رفضه اعتقاداً وإيماناً وإلى تجنب الوقوع تحت طائلته ما أمكن ذلك، لكنْ لا إلى التمرد عليه وخرقه عنوة. وما ذاك إلا درءاً للفتنة والفرقة وحفاظاً على الوحدة والسلم، في انتظار العمل على تغيير المخالف من القوانين لروح الشرع بالسبل المتاحة من ضغطٍ على أرباب القرار وتقديمٍ لمقترحات تشريعية جديدةٍ أو مصحًّحة ورفعٍ لدعاوى أمام محاكم القضاء.

إنه لمن الغريب حقاً أن ترى في مجتمعاتنا المسلمة أناساً على قدر من التقوى والصلاح، لكن لا يجدون أدنى حرجٍ في تجاوز القانون للأسباب التي ذكرنا طالما القانون عندهم يقع خارج دائرة الشرع وأحكامه، فتجد من يتهرب من أداء واجباته الضريبية وهو للزكاة فاعل ومن يخرق قانون المرور وهو لله ذاكر ومن لا يعتد بقانون الشغل وهو معتمر وحاج وغير هذا كثير كثير، ظناً منهم أن مخالفة هذه المقتضيات ليست تعتبر إثماً ولا حراماً وأن اقترافها لا يستوجب عذاباً في الأخرى أو ملاماً؛ وهم للأسف خاطئون وآثمون وعن صراط الحق لا محالةَ ناكبون!

إن ثقافة احترام القانون لا غنىً عنها لبناء الدولة ونهوض المجتمع، وهي في جوهر الدين ومن صميمه كما بيَّنّا، علماً بأن ثمة عملا دؤوبا منتظراً لردم الهوة بين القانون الحديث وأحكام الشريعة السمحة وجهداً مخلصاً لا بد منه في توعية الناس كما الدعاة بهذا الأمر وفي تربية الناشئة على ذلك. (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.