شعار قسم مدونات

قصتي في الأسر.. قبل الموت بقليل!

مدونات - عدنان حمارشة

الحلقة الأولى
يحتويني الألم ولا أجد ملجأ إلا هذا الكرسي الذي أجلس عليه ولم أعد أحس به، حتى ذاك الحارس الجالس على كرسي بالقرب من بوابة المستوطنة لم أعد أحس بحركته.. وأنا لم أعد أحس بشيء.. فقط هذا الألم!

 

منذ ساعات وأنا جالس عليه ودرجة الحرارة آخذة بالانخفاض وكلما مرَ الوقت لم تعد أطرافي كما عهدتها فهي لا تتحرك كعادتها. قد يكون الوقت فجرا، وقد يكون الوقت بعد منتصف الليل لكن مع ازدياد حركة السيارات في الشارع المقابل لبوابة المستوطنة التي أقاموها اغتصاباً من أرض فلسطين نبهتني إلى أن الصباح بدأ يقترب ويداي مقيدتان بقيود بلاستيكية بدأت تشق الجلد نحو العظم، لم أعد أحتمل صداعا قاتلاً يخترق رأسي ناحية اليسار، ويخترق الدماغ إلى أسفل رأسي من الخلف.

 

ما هي إلا ساعات وبكلّ هذه البساطة وجدت نفسي في غرفة التحقيق دون علاج.. فليس مهماً أنْ تموت أو تعيش بل المهم عندهم أن يخترقوا صمتك وعقلك وإنسانيتك

ومع أني أردت أن أبقى صامتاً غير أن آهة انطلقت من فمي وأحسست بالجندي الذي يحرسني يقترب مني. وما إن سألني بغلظة عما أريد حتى سقطت على الكرسي مغشياً عليَ ثم صحوت.. رفعت يدي فلم ترتفع، شيء ما يمنعها، تحسستها بيدي الأخرى، فوجدت قيدا يكبلها مع قطعة حديدية أخرى طويلة ..

 
فتحت عيني لكن لم أرَ إلا ظلالاً كثيرة.. وكأني أعمى! حتى دقات قلبي تؤلمني، الآلام في رأسي لا تحتمل.. حاولت أن أهدأ لأعرف ماذا يحدث، ونجحت في ذلك، أنا إذاً في المستشفى.. الأصوات حولي بالعبرية.. إحداهن أمسكت يدي ووضعت فيها إبرة موصولة بمحلول لم أره. لكنني سمعت أصواتهم بالعبرية يطلبون من الممرضة الاستعجال.. الأصوات تكاثرت حولي.. وكلهم يتصرفون بي دون أن يسألوني أي شيء وكأن لا علاقة لي بهذا الجسد المُسجى على السرير!

 
أخذوني بالسرير المتحرك لإجراء عدة فحوصات، بعد عدة ساعات أصبحت أرى أوضح، ليس كثيراً لكن ما يكفي لأنْ أحدّد معالم المكان. هو مستشفى، وبلا شك أنه إسرائيلي فهم يتحدثون العبرية، سمعت عدة جمل عبرية فهمت أنّ هناك طبيبة تولّت ملفي وأن وضعي بات خطيراً وتعتقد أنّي أُصبت بجلطة دماغية.

 
بعد ذلك جنود يملؤون المكان يتهامسون، وما هي إلا ساعات وبكلّ هذه البساطة وجدت نفسي في غرفة التحقيق دون علاج.. فليس مهماً أنْ تموت أو تعيش بل المهم عندهم أن يخترقوا صمتك وعقلك وإنسانيتك.
2-6-2014

 

 

الحلقة الثانية
صحوت من النوم، لا! لم أكن نائماً، فقط كانت عودة من الموت المسمّى زنزانة. سحقاً لهذا المرض.. شرطي لا يعرف للحياة معنى يستهزئ بي ويجعلني خائفاً على جسدي الضعيف، هزّني بقوة وهو يغمز شرطياً آخر.. الاثنان يبدوان عاديين.. يدين وقدمين ورأس، لكن.. فقط شيء واحد لم يكن موجوداً معهما إنها الإنسانية.

 
جلست أمام المحقق.. شاب في مقتبل العمر.. يظن نفسه أعرف الناس وأذكاهم، أشفقتُ عليه نوعاً ما.. لكنه كالآخرين.. يعلم عن كل شيء إلا الإنسانية. صرخ وشتم، صوته يكاد يمزق رأسي المتعب بالمرض، لم يعجبه هدوئي.. حباتُ العرق بدأت تنساب ساخنةً على صدري، كما أنها أغرقت جفوني وهي قادمه من جبهتي السمراء.

  

نحن في فلسطين، وفي الزنزانة، وفي غرفة التحقيق.. نصنع النصر.. ونعلِّمُ الكونَ كيف يكون الانتصار. أيها الأحرار.. تذوّقوا طعم الانتصار مرة، وستعودون من الموت.. لتنتصروا مرة أخرى

ظنّ للحظة ذاك الشاب ذو العيون الزرقاء عندما جاء طفلاً مع والديه على متن باخرة تبحر من روسيا إلى فلسطين، أنه سيكبر وسيحلّ مكان الفلسطينيين على أرضهم. أعتذر لك يا كابتن.. "فكرت للحظة" وأكملت، أنت لن تستطيع هَزمنا، نحن الفلسطينيون شربنا من حبّات زيتون أجدادنا.. لن ندعك تهزمنا، صدقني لن ننهزم أبداً.

 
أمّا صراخه لا يزال يصمّ الآذان. لكن يجب أن يعلم أنه لن يَهزِم هذا الجسد المتعب بالمرض والموت، فخلف هذا الجسد يقف عيبال وجرزيم وسهول القسام، إنّها تمتد في كل أوصاله. همست بصعوبة له، فسكت. طلبتُ منه الاقتراب فاقترب قليلاً، قلت له: اقترب أكثر، فوضع أذنه بالقرب من شفتاي، ويداي مقيدتان إلى الخلف وحبّات العرق بدأت تجف، ونصف جسدي الأيسر مشلول.

 

قلت له بهدوء: يا رجل لِمَ تصرخ؟! هل تريد إخافتي؟! أم تظن أني لا أسمع؟!
جنّ جنونُه، أمّا أنا فتابعت بهدوء أكثر، وصوتي لا يكاد يُسمع: في فلسطين، النساء لا تخاف.. فما بالك بالرجال؟! هكذا نحن في فلسطين، وفي الزنزانة، وفي غرفة التحقيق.. نصنع النصر.. ونعلِّمُ الكونَ كيف يكون الانتصار.

 

أيها الأحرار.. تذوّقوا طعم الانتصار مرة، وستعودون من الموت.. لتنتصروا مرة أخرى.

3-6-2014
سجن مجدو

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.