شعار قسم مدونات

سنة أولى تدريس

blogs - تعليم أطفال طفلة مدرسة
"إنه جِيلٌ سيء جدا، تافه حدّ التعب، ساذج حد البلاهة، آخر همه هو تلك المدرسة التي يذهب إليها عُنوةً كلّ صباح، وآخر اهتماماته هو تلك الدروس التي يجلس من طلوع الشمس إلى قرب غروبها وهو يتابعها، بنصف عقله، بل بثلثه، بل ربعه، بل أقل من ذلك، أما قلبه فلا وجود له أساسا داخل المؤسسة إلا إن كانت الحبيب في حدود أسوارها، إنه جيل أطول ما فيه هو لسانه، وأصغر ما فيه هو مساحة عقله..جيل متمرد طائش لم يتعلّم تقدير والديه على الوجه المطلوب فكيف يفعل ذلك مع أستاذه، ولم يتعلم آداب الأكل فكيف يتعلم آداب طلب العلم، جيل يتعامل بكل دهاء ورِقّة وحذر مع هاتفه الذكي ولا يعرف كيف يفتح كتابا بطريقة غير مؤذية لصفحاته".
هذا مختصر وملخص بسيط عن كمية الاتهامات التي تقال في حق هذا الجيل، وأكثر من يتحدث بهذه الأفكار هم الأساتذة والمعلمون لأنهم أكثر من يتعامل معه وأكثر من يقع في الصدامات معه وأكثر من ألصق عديد التهم والصفات به.

وهؤلاء الأساتذة هم نفسهم من أمطروني بعديد النصائح قبل دخولي لعالم التدريس، أهمها "لا تضحكي لهم ومعهم، كوني صارمة جدا من البداية، اجعليهم يهابونك ويخافونك فهذا جيل لا تنفع معه الرقة، ارتدي الوجه الحازم، المُكَشِّر، سيحترمونك ويقدّرونك إن رأو قسوتك وجدّيتك، ضعي درعا وحاجزا يحول بينك وبينهم، اجعلي -علامة الامتحان- هي تهديدك للمشاغبين، لا تترددي في استخدام صوتك لإرعابهم.

أخبرتهم أني سأبذل كل جهدي من أجلهم وأخبروني أنهم سيبذلون جهدهم في إسعادي بمثابرتهم، سعادتي حينها وأنا أنظر لعيونهم المبتسمة السعيدة كانت ستكفي أهل الأرض

لوهلة كنت سأفعل ذلك، لكني تذكرت أني كنت قبل سنوات قليلة طالبة في نفس سنهم ونفس مرحلتهم، تذكرت أني أستطيع أن أعرف صفات الأستاذ الذي كنت سأحبه وأحب مادته وأحب الذهاب للجلوس في قسمه، تذكرت وعزمت" أن أكون الأستاذ الذي تمنيت أن أراه يوما".

أول لقاء لي معهم كان في محاضرة جماعية في مدرّج كبير يحتوي أكثر من 100 تلميذ من السنة الأولى، وأساتذة الثانوية ،جمعهم المدير لأفتتح معهم موسمهم الدراسي بدرس حددته الوزارة، كنت عفوية، أرتدي ابتسامتي، نظرت إلى عيونهم، وانتظرت أن أرى الوحوش التي حدثوني عنها لكني لم أرى سوى ابتسامات تبادلني ابتسامتي، فتيان وفتيات في عمر الزهور، حضورهم أول ساعة من أول يوم مدرسي دليلُ حرصهم وحماسهم، حرصت أن يكون تقديمي للدرس ممتعا وتفاعليا ومفيدا، أعتقد أني نجحت في ذلك.

ثم أول حصة مع أول قسم، دخلت بابتسامة قلبي وحماسه، أما ابتسامة وجهي فلم أتعمدها بل كانت عفوية لا إرادية، طلبت منهم الهدوء ففعلوا، سلمت عليهم وعرفتهم بنفسي، تعرفت عليهم واحدا واحدا، قصصت عليهم القصة التي كانت لها الأثر البالغ في حياتي، تناقشنا على وضع قانون مملكتنا التي سنقضي فيها أغلب ساعات يومنا. أخبرتهم كم أعشق المادة التي أدرسها لهم، وكم أنها مادة سهلة ممتعة مفيدة، وكم أنهم سيكونون سعداء بدراستها وكم سيحبون الدروس التي سنتعلمها معا، والتجارب العملية التي سنستمتع ونتعلم من خلالها. أخبرتهم أني سأبذل كل جهدي من أجلهم وأخبروني أنهم سيبذلون جهدهم في إسعادي بمثابرتهم، سعادتي حينها وأنا أنظر لعيونهم المبتسمة السعيدة كانت ستكفي أهل الأرض لو وُزِّعَت عليهم، تكرر الأمر مع الصفين الآخرين،و تضاعف حجم الامتنان داخلي لهذه النعمة التي حباني الله بها، أن رزقني أكثر من 80 فتى وفتاة أصغرهم 14 سنة وأكبرهم 19 سنة.

نجحت في إيصال كلامي ونصائحي وملاحظاتي للتلاميذ حين فعلت ذلك بلطف. نجحت فقط حين أدركت أن سلطة الحب أقوى من سلطة الخوف
نجحت في إيصال كلامي ونصائحي وملاحظاتي للتلاميذ حين فعلت ذلك بلطف. نجحت فقط حين أدركت أن سلطة الحب أقوى من سلطة الخوف
 

لا أملك صوتا قاسيا عاليا، ولا أملك بنية قوية تُرهب من حولي، لكنه اليوم مرّ أول شهر من التدريس وهو نفسه أول شهر من الابتسامة اليومية، والحب الكثير، ولا أجد منهم إلا الكثير من الاحترام والاجتهاد والمتابعة والمشاركة والتنافس والحب والهدوء.

كان شهرا تعلمت فيه الكثير معهم، نجحت في جعل"محمد" يثق بذكائه حين جعلته يجيب عن الأسئلة التي تأكدت أنه يعرفها، ونجحت في الحصول على هدوء "إبراهيم" داخل القسم حين أخبرته أن كلامه الكثير هو جزء من شخصيته النشيطة الذكية، وأنه سيحصل على مكافأة إن حافظ على صمته نصف وقت الحصة، نجحت في جعل "مريم" تُقبل على المشاركة حين أخبرتها أن عيونها تشع ذكاء، نجحت في إيصال دروسي وكل المعلومات التي أريدها أن ترسخ معهم حين كنت أفعل ذلك باستمتاع، ونجحت في الاستحواذ على انتباههم وحسن اصغائهم حين انتبهت لهم واحدا واحدا، ونجحت في إيصال كلامي ونصائحي وملاحظاتي حين فعلت ذلك بلطف. نجحت فقط حين أدركت أن "سلطة الحب أقوى من سلطة الخوف".

لم أكمل أول سنة تدريس، بل أكملت أول شهر فقط، شهر كسبت فيه قلوبا عقولا وأرواحا، أصبحت جزءا مني، أحببتهم بمزاياهم وعيوبهم، لم أستطع أن أرى ذرة سوء أو طيش أو قلة أدب تجعلني أكره أيّاً منهم، بل رأيت فقط ما يجعلني أودّ أن أدفعهم لكل ما هو أفضل في حياتهم ودراستهم وعلاقاتهم وأساليب تواصلهم مع العالم والكون. إنهم أرضي البور التي أودّ أن أزرع فيها بذورا طالما تمنيت أن تُزرع داخلي في تلك المرحلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.