شعار قسم مدونات

أبي الذي ما عُدتُ أذكُرُهُ

blogs الأب
يسعى الآباء، غالباً، ليكونوا القدوة والمثل الأعلى لأولادهم، يحاولون الخروج عن بعض ما اعتادوا عليه في تربية أهلهم، ظناً منهم أنهم يحاولون توّخي الأمانة في تربية أبنائهم، خاصةً حين يخرجون عن السالب الذي أثر عليهم ويركزن على الإيجابي في تلك التربية.
علاقة الأمومة والأبوّة مع الأطفال ذات شأن كبير عليهم، وكما يقولون في المثل الدارج "إن كبر ابنك خاويه" أي اجعله كالصديق والأخ لك، وفي ذلك محاولة لتقريب المسافات بين الآباء والأبناء، خاصةً عندما يكبر الأبناء، ويصبح الولد أو البنت أكثر حاجة إلى النقاش المنطقي والعقلاني والتعامل معه كشخصية ناضجة ذات عقل وفِكر، لا كذلك الطفل الصغير الذي يكتفي بأن تقوله له: افعل ولا تفعل!
ولهما في قرار النفس مكانة!

قد يختلف البعض مع والديه في حياتهما، وقد يصل البعض في ذلك الاختلافِ حدَّ القطيعة أو المصابرة الشديدة، ولكنه لن يستطيع أن يتجاوز مكانة الأب والأم في داخله وحضورهما، حتى وإن كانا سيئين معه، فإنه سيقول: رحمهما الله!

سبع سنين خُضرٍ
تُوفيَ والدي رحمه الله منذ سبعِ سنوات، كانت السنة الأولى هي الأصعب علي. كان والدي رحمه الله كثير الجلوس في المنزل، خفيف الظل علينا، لا تشعر بوجوده كباقي القصص التي نسمعها عن رجلٍ موجودٍ في المنزل وتكثر معه الطلبات والتحكم في الموجودين في البيت ذهابًا وإيابًا وافعل ولا تفعل، فلم يكن يخرج إلّا لشأنٍ له ومن ثم يَعود. وكنت كما يُطلق عليه: طفلته المدللة، لذلك كان خبر وفاته في عامه الأول صعباً، كضوءٍ كان في حياتك وانطفئ برحيله!

ستدرك أنّ الخير في الابن للأب أن يكون عملاً طيبًا يراه الناس فيذكرون والديه اللذين كانا سبب قدومه للعالم
ستدرك أنّ الخير في الابن للأب أن يكون عملاً طيبًا يراه الناس فيذكرون والديه اللذين كانا سبب قدومه للعالم

نعم، في عامه السابع أصفها أنها كانت "سبع سنين خُضر"، وليس في ذلك فرحاً لوفاته أو أي شيء من هذه المعاني، وإنما تكتشف أنه يَكبُر فيك ما لا يَكبُر إلّا بما قد تضطر الحياة لأن تكسره فيك، وإذ بجانبه بدلاً عنه يَنبُتُ فيكَ عودٌ أخضرُ جديد، ما كان ليَنبت إلّا لوجود هذا الكسر، وأكبر سؤال أطرحه الآن لنفسي عند مواجهة بعض المواقف: كم نحتاج للكسر كي نتخطى هذا الأمر؟ وما أخف الأضرار التي نستطيع عملها لتفادي الكسر؟ فليس بالضرورة، بعد مرحلةٍ ما، أن تكون حياتك فيها من الكَسرِ كي تتعلم، وإنما عليك أن تنال ممن حولك وتتعلم مما مرَّ بك. الكسر مرحلة انتقالية في حياتك، لست مضطراً لها كل حينٍ كي تتعلم وتتخطى، وكم من الكسور في الناس لكنها لا تسمح لبُرعمٍ جديد أن ينموَ فيها، أو لجَبرٍ أن يحلّ على الكسرِ نفسه؟

الإنسان حين تمتد به الحياة مع من يُحب يُصبح الفقد عليه صعباً، فقد الآخر أو حتى أن يموتَ هوَ، بينما الأصعب في الواقع هو أن تخسر نفسك!

فقد الأب أولاً، وفقد الوطن والغربة وغيرها كثير تلاحقت، ستكون كافية أن تعلمك ألا تلعب "دور الضحية" فالفقد للعزيز لا يُعيده شيء، سوى طمعٌ بجنةِ المُلتقى، وخيرنا الذي يتعلم مما يَفقده ويُعممه على بقية خطوات حياته، فقد تختلف الزوايا والأشخاص والمواقف والأسماء، ولكن الحَذِرْ من يقيس هذا على ذاك ويعرف كيف يتجاوز الأمر بذكائه.

وكطفلة مدللة، كنت أعيشَ الدور كاملاً دون تفريطٍ كامل، لعلمي أنّ الحبل السُريّ مع الوالدين يُقطع حين يجداك قادراً على الوقوف تماماً على قدميك بل والجري أيضًا، وكان في داخلي شيئاً يمنعني من ذلك، بأن أُبقي الأمور واقفة على خمسة أو عشرة بالمئة تنتظر لمستهما فتتم الأمور.

حتى كان واقع الحياة، فكان الكَسر، وكان الألم الذي جعلني أنطوي على نفسي كثيراً حتى خرجت.
ربما، من أكثر الدروس التي تعلمتها، أن أُعطي الأشياء مقامها الحقيقي، دون إفراط أو تفريط، وقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام "أحبب ما شئت فلا بد أنك مفارقه"، كأطفال بشكلٍ خاص وغريزة التعلق، وكبشر بشكل عام فإنّ الإنسان حين تمتد به الحياة مع من يُحب يُصبح الفقد عليه صعباً، فقد الآخر أو حتى أن يموتَ هوَ، بينما الأصعب في الواقع هو أن تخسر نفسك!

كثير من الأغاني تُعلّق الإنسان بغيره والأشياء من حوله، فبفقدها تذهب قيمته ويغدو خاوياً كمن يَسقُطُ في الفراغ دون إياب، بينما الواقع مختلفٌ تمامًا، قد تصل لمرحلتي التي وصلت إليها بعد سبع سنوات، بأن يقلّ حديثك عنه وذكره أمام الناس كما كنت تفعل في بداية ذكرى وفاته، ليس قلّة وفاء، ولكن لأنك ستدرك أنّ الخير في الابن للأب أن يكون عملاً طيبًا يراه الناس فيذكرون والديه اللذين كانا سبب قدومه للعالم، أن يَجدون فيكَ خَيرَ خِصالِهِ التي تشمّلت بها شخصيتك وحياتك، ليس في فقد من نُحب، وإنما في الأماكن والأشخاص الذين نتركهم وهم على قيد الحياة، فالذكرُ الحَسَنْ، والعفوُ عند المقدرة وكفُّ الأذى عنهم وحِفظُ الودُّ هو ما نحتاجه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.