شعار قسم مدونات

الباحثون عن العلم في ركام من الفتات

Blogs- science
هذه التدوينة ترجمة لما لا يستطيع الكثير من الطلبة الباحثين قوله وليست بأي حال من الأحوال دعوة للتخلي عن بحث أو طأطأت الرأس أمام صعوبات الحياة. يعتبر البحث العلمي الجدار القوي الذي يستند إليه اقتصاد البلدان وازدهارها لكنه في بلداننا العربية والناطقة بالعربية لا يستحيل إلا جدارا مائلا يكاد يهوى على رؤوس كل من أخذته العزة بالعلم ودخل غماره.
           
يواجه البحث العلمي في بلداننا شح الميزانية المرصودة إليه ونضوب الشغف به عند العامة ومحاولة بعض الدغمائيين مواجهته بالدين أو إلصاقه بما جاء في الكتب المقدسة في محاولة بهلوانية لرص جدار سميك آخر بين العلم والعقل وفي وسط هذه الغوغائية ترى الباحثين يتقوقعون على أنفسهم في محاولة منهم لحماية القليل من العلم الذي تسمح به إمكانيات مختبرات جامعاتهم وكفاءة بعض الأساتذة. 
             
في بداية الرحلة وككل البدايات كان كل شيء وردي اللون وجميل الملامح اسم البحث هيكله الصورة المرسومة له وأحلامك في الوصول إلى نتيجة ترضي غرورك كعالم مبتدئ يطمح إلى التميز والتخرج في مدة مقدارها ثلات سنوات. تتنفس الأمل كل صباح وتنظر إلى قهوتك السوداء بتفاؤل كبير ومع كل رشفه ترشفها تتراء لك أسوار الروم وقصور كسرى تغزوها بالعلم والقلم وتفتح البلدان محاضرا ومناظرا تجذب كل الأنظار إليك.
        
آلاف البحوث التي قرأت ومئات التجارب التي حاولت وعشرات السنوات التي قضيتها في التعلم وقليل الأمل الباقي لا يشفعون لك أمام الفضوليين الذين يرون في تأخرك عن التخرج تهاونا منك وتقاعسا وبلاده

تدخل مختبرك المتواضع وتلبس وزرتك البيضاء تعدلها كأنك جراح يهم باستئصال ورم خبيث من جسد أعياه الضنى والمرض. تجلس قبالة ما جاد به الزمن من مواد أولية وآليات عمل أو لنكن صرحاء ونقول ما بقي من فتات من سبقنا في ساحة الحرب. تحاول مرة وأخرى وأخريات وتنجح بعد سنتين فتنسى العذابات والسهر. تركض إلى بيتك تعانق أمك التي تحمل همك وهم بحثك وفجأة تنظر إلى المرآة ويا له من وجه منهك بدأت هالات سوداء تستعمره كباكتيريا تتكاثر صامتة في مكان زراعة لم يجدر بها التواجد فيه.

          
تستجمع قواك تقول لم يبقى إلا سنة. سنة واحدة وأنتهي من كل هذا الهم الجميل والحلم الثقيل. تنام قليلا وتستيقظ في العام المقبل وقد مرت السنوات الثلات ولا زلت تناول نتائجك الأولى من هذه اليد إلى تلك الأيادي تتبع خيال أستاذ مؤطر بخطى متثاقلة يرهقها طول المسير وقلة المال. تنظر يمنة ويسرة وترى من سافروا إلى بلدان تتكئ على العلم يرجعون محملين بالنتائج تجذبك رائحة القيمة العلمية فيها وتوقظ عزيمتك رؤيتهم وهم ينشرون أبحاثهم تارة في مجلة علمية وتارة في ندوة في بلد طالما حلمت بوطئه.
           
تقاتل الوقت فيقتلك وتتساءل بحرقة أهذا عيب فيّ أم عيب في الجامعة أم عيب الدولة أم عيب القدر الذي أولا رماني في رحم هذا الوطن وأجهض حلمي ثانيا في حرم هذه الجامعة وأعدم ثقتي بنفسي في مرح سادي أراه في عيون كل من يسألني السؤال المعتاد المتكرر المر أما حان يوم تخرجك بعد. يتحول الشوق فيك من شوق إلى التميز إلى شوق إلى التخرج ولو بنتيجة الصفر. يأكلك الاكتئاب ويمص دمك التوتر وتعلو محياك علامات الرهاب من كل شيء.
      
آلاف البحوث التي قرأت ومئات التجارب التي حاولت وعشرات السنوات التي قضيتها في التعلم وقليل الأمل الباقي لا يشفعون لك أمام الفضوليين الذين يرون في تأخرك عن التخرج تهاونا منك وتقاعسا وبلاده فيتكاثر عليك الرغبة في الهروب من واقع البحث العلمي في بلدك وواقع سنوات عمرك التي تنسل هاربة من بين يديك وتضل حبيس حلمك الذي كلما ضاق عليه الخناق زاد وهجه في قلبك حتى يصير نارا تحرقك. نحن نحيا بقليل العلم الذي منحنا إياه قدر بلداننا وسياساتها نحن نتجرع الأمل مسموما بالألم كي يقال عنا ذاك العالم ابن ذاك العلَم وعزاءنا أن الكون جاء من عدم فلما لا يأتي نجاحنا من فتات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.