شعار قسم مدونات

من قتل ياسين.. البطل الشعبي؟!

blogs- مسدس
يحكي جمال بدوي في كتابه "مصر من نافذة التاريخ" مخاطبًا الشعب المصري بأنه قد يُذهل حينما يعرف أن ياسين؛ الشخصية الفلكلورية التي تتغنى المواويل ببطولاته، ليس أكثر من مجرم مأجور يقتل الأبرياء بالأجر، وأن أحد مجاهدي الجيش المصري وهو اللواء محمد حرب هو الذي قتله في مخبئه بالقرب من وادي حلفا بأقصى جنوب مصر.
هكذا تُبَدِّل الروايةُ الرسميةُ التراثَ الوجدّاني الشعبي باستخدام المرجعية الأخلاقية في تحديد جانبي الخير والشرّ. بل ووصلت إلى التمادي في وصف فساد البطل الشعبي ياسين إلى حد أن زوجته التي كانت معه في مخبئهِ خرجت بعد مقتلهِ تزغرّد سعيدة بمقتل زوجها الطاغية الفاسد. هذا التمادي في الرواية الرسميّة يفتح المجال لسؤالٍ مؤرقٍ حول السبب الحقيقي الذي جعل الرواية الفلكلورية تدور حول حجم الألم والحزن الذي يراود أهله وزوجته، والسؤال المحوري في الموال وهو: من الذي قتل ياسين؟ فلو أن أهله سعداء حقًا بموتهِ فلماذا تحوّل إلى بطلٍ شعبيّ؟ ولماذا حزنوا على فراقهِ وأرّقهم السؤال الذي يبحث عن الكيفية والمصير؟

إذا حاولنا أن نبحث عن إجابة لهذا التساؤل في المواويل والأغاني الشعبية التي خرجت كتنويعاتٍ متنوعةً على السيرة الشعبية؛ فإننا سنلمح جانبين للحكاية. جانب رومانسيّ محض استهلكته الدراما المصرية والأغاني الفنيّة التي خرجت عن المؤسسات الثقافية –كالإذاعة والتلفزيون-وتغنّى بها شخصيات مشهورة. مثل القصيدة التي كتبها بيرم التونسي بعنوان (يا بهية وخبريني) وقد غنتها ليلى مراد ومحمد طه وهي تُرجع مقتل ياسين إلى حبّه لبهية.

يا بهية وخبريني يا بويا، ع اللي قتل ياسين
قتلوه السود عينيا يا بويا، من فوق ضهر الهجين

وقصيدة فتحي قورة بعنوان: (يا بهية وخبريني) التي غنتها شادية، تأخذ السياق العام لشخصية بهية وتخرج بها إلى نصٍ رومانسيّ عامٍ.

في المقابل هناك جانبٍ آخر يمثّل مستوى مختلف من الإدراك الشعبي الفولكلوري، يتمثّل في موالٍ يغلب عليهِ الحزن والأسى والتغنّي بالبطولات ولا يؤتى على ذكرهِ في السياق الرسمي. ويدور بشكلٍ أساسيّ حول التساؤل عمّن قتل ياسين. وهو السؤال الغامض الذي لا ينتهي بإجابةٍ مُحدّدة، ويعرض الحزن الشديد الذي عاشته بهية وأهل ياسين بسبب فراقه.

قاتل ياسين هو
قاتل ياسين هو "الباشا" الإقطاعي، والحاكم المستبد الذي يستغل خيرات البلاد لصالحهِ فقط، ويمارس القهر والعنف ضد الشعب

يمثّل الموال الفولكلوري جانبًا مسكوتًا عنه أو مكبوت – بتعبير سيجموند فرويد في الوجدان الجمعي المصري. هذا الكبّت أو القمع ربما يشير إلى نوعٍ من الممارسة السلطوية التي كبتت حقيقة مقتل ياسين؛ فتحول الأمر إلى حقيقةٍ ممنوعة يجب التغافل عنها؛ وهو ما أدّى بها في نهاية الأمر إلى انتشارها بهذا الشكل الغامض والحزين في الوجدان الجمعي الشعبي. غير أن هذا الحظر بدأ ينفك قليلاً خاصّة بعد حركة الجيش في يوليو 1952 وانتهاء عصر الإقطاع والملكية، فخرجت نسخة جديدة من الحكاية على يد الشاعر أحمد فؤاد نجم في قصيدته التي غنّاها الشيخ إمام إذ يقول:

يا بهية وخبرينا،على اللي جتل ياسين
في الصحرا وفي المدينة، اليوم دا ومن سنين
ناس تمشي، وناس تجينا
واحنا متبعترين، ولا صاري ع السفينة
ولا مربط للهجين، والدنيا بتجري بينا
واحنا متوخرين، يا بهية ولململينا
نطرح مليون ياسين

وبرغم أن نجم أخرج قصّة مقتل ياسين ليعممها على الشعب بأكملهِ، فيقول إن مقتل ياسين لم يتم من سنين فقط، وإنما يتم اليوم كذلك. إلا أنه في نفس الوقت تغافل عن الإجابة عن السؤال الصريح: من قتل ياسين؟وأرجع الأمر إلى الذات المصرية في عموميّتها. إذ إن التفكك الاجتماعي وعدم وجود الأهداف أو آليات تنفيذها (ولا صاري ع السفينة) هو السبب الرئيس في قتل المصريين سواء كان قتلا فعليًا أو معنويّا.

المتابع لسرور يجد أنه أفرد خطابًا ثقافيًا كاشفًا – خلال مسيرته الأدبية- ضد النظام السياسي والاجتماعي والثقافي المنتشر. يرفض فيه الممارسات المزيّفة والمتناقضة التي يعيشها المجتمع المصري

وبرغم ما يبدو فيهِ هذا السبب من دافعٍ لخطابٍ حماسيّ يدفع للمقاومة ولتجميع الشعب حول بهية، إلا أنه يحمل في ذات الوقت جانبًا من جلد الذات وتحقيرها Self-abasement، واعتبار المشكلة في التفكك الاجتماعي كسلوكٍ يمارسه المجتمع المصري هو في الحقيقة ما قتل ياسين. وإذا استمررنا في استخدام منظار فرويد فإننا نجد أن قصيدة نجم في إرجاعها لسبب مقتل ياسين إلى السلوكيات الفردية التي تعم الشعب المصري من تفكك وتوالي الغرباء في حكمهِ، تمثِّل استمرارًا للخضوع للسلطة المهيمنة –بتعبير جرامشي– في استحقاق المصري ما يحدث له بسبب أخطائهِ. إذ إن جلد الذات لا ينتج خطاب معرفي مقاوم، مضاد للسلطة المسيطرة على الوجدان المصري.

في عام 1965 خرج هذا الخطاب الثوري المقاوم بشكلٍ عنيف على يد نجيب سرور في روايتهِ الشعرية (ياسين وبهية) التي كتبها عام 1964. تمثّل رواية ياسين وبهية أول عمل أدبي/ شعري مقاوم يأتي بلغة الشعب المصري العاميّة البسيطة، ويحكي القصّة متجاوزًا السلطة المسيطرة والمهيمنة، موضحًا أن قاتل ياسين هو "الباشا" الإقطاعي، أو الحاكم المستبد الذي يستغل خيرات البلاد لصالحهِ فقط، ويمارس القهر والعنف ضد الشعب. فيقوم سرور هنا بما يشبه عودة المكبوت Return of the Repressed –بتعبير فرويد- فينفجر في وجه المستبد/ الحاكم فاردًا تركيبةٍ لغويةٍ شديدة التعبير، وساردًا خطابًا ثقافيًا مغايرًا للخطاب الرسمي المهيمن حول القصّة والذي اختزلها في جانبها الرومانسي فقط.

يقول الراوي في مسرحية سرور:
لمّا كان آدم وحوا، م السما نازلين يا دوبك بالعيال
يا ترى كان في ساعتها بيه وباشا؟

هذه التساؤلات حول الشرعية، وأحقية المَلك بالمُلك ومفهوم السلطة تعكس فهمًا لصيرورة التاريخ، ولكون السلطة ليست أحقية أزلية للملك وإنما نتيجة صراعاتٍ للقوى، تؤدي إلى توزيع الملكية، وتكوّن الطبقات الاجتماعية وتشكل الحياة بمفهومها الظالم الذي يريد أن يخرج منه ياسين تمامًا. صراعات ينتصر فيها القويّ ضد الضعيف. تمامًا مثلما حدث مع أبيه حين أخذ الباشا أرضه، وكما يريد أن يفعل معه فيسلبه بهية.

يا أبي، يا نصف فدّانٍ يتيم
يا سيولا من عرق، يا حصادًا للهشيم؛ كل عام.
أيها الغول اللعين
أنت لن تأخذ مني ما تبقى

يصعد صوت ياسين وينمو، ويظهر معه صوت سرور فاردًا خطابه المقاوِّم ضد الخطاب السلطوي المنغرس في نفوس الفلاحين من حب بهوت-القرية التي تدور فيها الأحداث- ووجوب الصبر على البلاء وانتظار الفرج.

يمثِّل ياسين انفجار المكبوت والمسكوت عنه من ممارساتٍ قمعية في بهوت. وفي ذات الوقت تمثِّل مسرحية ياسين وبهية انفجارًا آخر للرواية المكبوتة في الضمير الشعبي حول حقيقة القصّة. في الوقت ذاته، فإن المنهج نفسه المقاوم في خلق خطاب شعري/ ثقافي مغاير هو السمة الغالبة في كل أعمال نجيب سرور.

والمتابع لسرور يجد أنه أفرد خطابًا ثقافيًا كاشفًا – خلال مسيرته الأدبية- ضد النظام السياسي والاجتماعي والثقافي المنتشر. يرفض فيه الممارسات المزيّفة والمتناقضة التي يعيشها المجتمع المصري. وهو ما أدى بهِ في النهاية إلى اتهامهِ بالجنون وإيداعه في مستشفى العبّاسية للأمراض العقلية. إننا وإن فهمنا كيف تؤدي السلطة القمعية إلى تغيراتٍ عنيفة على الوجدان الشعبي؛ فكيف إذن يمكن أن يُنتج المثقف ثقافة مقاومة في واقعٍ وبيئةٍ فكرية واجتماعية تمتهن الخضوع والخوف، وتحوّل أفرادها إلى فرائسٍ تخضع لشريعة الغاب؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.