شعار قسم مدونات

مصر فى عيون العُدُول

مدونات - مصر

كنت أغوص في سطور كتاب حضارة العرب وحروفه كعادة غوصي في كتب التاريخ والحضارة التي تشعر وأنت بين حكاياتها وعباراتها بالفخر والعزة والهمه والكبرياء والسعادة والابتسامة التي ترسمها الشفتان طيلة القراءة، قبل أن يتذكر العقل تماما واقع الأمة المرير، فتختفي بكل أسف هذه الابتسامة ويحل محلها الحزن والفتور..

  

وفي لحظة الابتسامة العظيمة قرأت وصف الصحابي الجليل عمرو بن العاص عندما بعث إليه عمر بن الخطاب ليصف له مصر فقال :
 
اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قريةُ غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضُها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيلُ مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجرى فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمدّه عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا اضلخمّ عجاجه، وتعظم أمواجه، فتفيض على الجانبين ، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء الذي يصلح هذه البلاد وينميها ويقرّ قاطنيها فيها ألا يُقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرّر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل.

 
تمعنت جميع الكلمات وإذا هي وصف لموارد طبيعية قد حباها الله بها. هكذا رآها ابن العاص وهكذا علت الابتسامة شفتاي لكن عقلي عاد إلى حاضره وتردد في مسامعي جملة َوَصَفنا بها أحدهم بأننا فقراء، لقد وصفت مصر بالفقر!

 

فكرت أن نصف مصر الآن كما وصفها ابن العاص، راجعت كل كلمة قالها أليس كل ما قيل ما زال موجودا إلى الآن؟ هل تنقصنا الموارد؟ أعتقد أن ما ينقصنا هو النظر!

إن وصف مصر بالفقر كوصف الإسلام بعصاته فقط وهم لا يعلمون حقيقته، أي فقر لمصر وهي البلد الوحيدة التي تكلم الله فيها لإنسان؟ أي فقر وهي بلد الرسل الانبياء؟ أي حالة اقتصادية مزرية مميتة وصلت لها مصر الان وهي بلد النيل؟ وهي بلد ثلث آثار العالم؟ وهي بلد أكبر بحيرة صناعية؟ وهي بلد المحميات الطبيعية والشعب المرجانية؟ كيف وصلت مصر لهذا المستوى الاقتصادي وهي تملك كل هذا؟
 
في زيارتي الأخيرة لمصر شاهدت موجة الغلاء الفاحش المستمرة التي تشير كل الإحصائيات، والتوقعات، والمؤشرات، التي يتقنها المجنون فينا قبل العاقل أن مِصر تمر بسنوات عجاف .أمراض تتفشى ،ودواء يتضاعف، وغلاء يطيح بالقادر ويميت من ليس له القدرة، وشباب يفقد الأمل ليس فقط في الإصلاح بل في العيش، وحكومات ومسؤولين لا يصرحون إلا بأننا فقراء!
 
نعم مصر أصبحت فقيرة نقولها والقلب يدمع دما  فقيرة في الحكام، فقيرة في العقول، فقيرة في العدول، فقيرة في الإبداع، فقيرة في المواهب، وهو بسبب الظلم، والسجون، والضياع، والحرمان، وإهدار الموارد، وإضاعة الفرص، لكن إياك ان تدّعي فقرها في الموارد التي حباها الله إياها من فوق سبع سموات لمجرد أن عينك ترى بعين الظلم..

 
فكرت أن نصف مصر الآن كما وصفها عمرو بن العاص راجعت كل كلمة قالها رضي الله عنه أليس كل ما قيل ما زال موجودا إلى الآن؟ هل تنقصنا الموارد؟ أعتقد أن ما ينقصنا هو النظر!

 
لأن غِناها رأته عيون العدول، وفقرها تراه عيون الظالمين، أحجم الله الظالمين وأخرج المظلومين سالمين آمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.