شعار قسم مدونات

انفصال الأقاليم بين الرؤى الاقتصادية والواقع السياسي

blogs كتالونيا

ما بين سنغافورة وجنوب السودان: 
بعد أكثر من خمس سنوات من انفصال جنوب السودان عن شماله ورغم ما تملكه من ثروات هائلة من احتياطات نفطية، وثروات زراعية وحيوانية تؤهلها أن تكون أحد أقوى الاقتصاديات الناشئة في إفريقيا والعالم لا يزال أكثر من نصف سكان جنوب السودان يعيشون تحت خط الفقر، ويعانون من انتشار الأمراض ويرزحون تحت وطأة الأزمات الاقتصادية، حيث أن الواقع السياسي وعدم استقرار الأمني على الشريط الحدودي بين دولة جنوب السودان والسودان كان بمثابة حجر عثرة أمام تحقيق التنمية الاقتصادية، واستخدام تلك الثروات بما يخدم هذه الدولة الناشئة.

وفي المقابل نجد أن التجربة السنغافورية في الانفصال عن ماليزيا في وسط ستينيات القرن الماضي تمثل نموذج انفصال ناجح بكل المقاييس، حيث أنها وعلى الرغم من افتقارها للموارد الطبيعية وهشاشة البنية التحتية وتراكم الأزمات الاقتصادية. استطاعت وفي غضون سبع سنوات بعد الانفصال أن تضاعف إجمالي الناتج المحلي، وأن تجذب كميات كبيرة من رأس المال الأجنبي وهو إنجاز مبهر في ظرف قياسي وجيز. 

وقد أصبحت سنغافورة اليوم من بين أهم القوى الاقتصادية في العالم التي يشار إليها بالبنان في ظلل هذه المعطيات التي سبق ذكرها إلى جانب تبنى الحكومة لسياسات الإصلاح الاقتصادي والمتمثلة في تنمية الموارد البشرية والتركيز على الاستثمار في التعليم والبحث العلمي جنبا إلى جنب مع تطوير البنية التحتية. وبلغة الأرقام فإن، إجمالي الناتج المحلى السنوي لديها يفوق إجمالي الناتج المحلى لثلاثة أرباع العالم مجتمعة (إجمالي يصل الى 300 مليار دولار امريكي). وفي سياق قرار الانفصال نجد أن الاستقرار السياسي والأمني في دول الجوار إلى جانب الدعم الدولي كان قد فتح الطريق أمام سنغافورة لتحقيق ما وصلت إليه اليوم من معجزة اقتصادية.

الحواجز السياسة المؤثرة في قرار انفصال الأقاليم:

إن قرار انفصال إقليم كردستان العراق، سوف يكون له أبعاد وتأثيرات كبيرة على استقرار الدول المحيطة خصوصا في ظل وجود الأقلية الكردية المنتشرة في كل من تركيا وإيران وسوريا

في ظل التجربتين السابقتين نجد أن الاستقرار السياسي والأمني المحيط بالأقاليم التي تنوى الانفصال يعتبر أحد أهم عوامل نجاح هذه الأقاليم في تحقيق التنمية الاقتصادية في مرحلة ما بعد الانفصال، خصوصا إذا ما كان لقرار الانفصال تأثير مباشر على سيادة واستقلال الدول المجاورة. وفي ذات السياق نجد أن قرار الانفصال ليس مسألة داخلية ترتبط بالدولة الأم والإقليم الذي ينوي الانفصال، بقدر ما يمثل قرارا استراتيجيا له أبعاد وتبعات إقليمية تؤثر على الدول المحيطة.

 

فعلى سبيل المثال نلاحظ أن انفصال إقليم كتالونيا إذا ما كتب له النجاح ونال الاعتراف الدولي، فسوف يكون له تأثير كبير على المستوى الإقليمي (دول الجوار الاسباني) خصوصا في ظل وجود العديد من الأقاليم في دول أوروبية متنوعة ترغب في الانفصال عن دولها (حيث أن نجاح كتالونيا في الانفصال سوف يشكل حافزا كبيرا لتلك الأقاليم) وسوف يكون الشرارة الأولى التي تؤجج لنار الانفصال وتجر لبداية تفتت القارة العجوز. ومن أمثلة تلك الأقاليم: جزيرة صقلية: إحدى أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط وهي منطقة تابعة لسيطرة الحكومة الإيطالية وتتمتع بحكم ذاتي، تعاني من مشاكل اقتصادية متفاقمة (يؤمن أهلها بأن الحل لمشاكلهم الاقتصادية هو الانفصال).

إقليم فينيتو هو عبارة عن إقليم تابع لسيطرة الحكومة الايطالية، وتعتبر مدينة البندقية عاصمة هذا الإقليم، وهي أغنى المدن الإيطالية وما يلاحظه المتابع لهذه الشؤون فإن يلحظ أن في الآونة الأخيرة قد تعالت الأصوات التي تنادي بالانفصال عن إيطاليا خصوصا في ظل ارتفاع الأعباء الضريبية التي أثقلت كواهل المجتمع ومؤسساته ناهيك عن تدني مستوى الخدمات الحكومية المقدمة لهم.

في ذات السياق نجد أن قرار انفصال إقليم كردستان العراق، سوف يكون له أبعاد وتأثيرات كبيرة على استقرار الدول المحيطة خصوصا في ظل وجود الأقلية الكردية المنتشرة في كل من تركيا وإيران وسوريا (والتي تتركز في منطقة جغرافية متقاربة) وهذا الأمر لا محالة سوف يشجع ويشكل حافزا لتلك الأقليات في هذه الدول للانضمام إلى كردستان العراق. وفي ظل كل هذه العوامل والمعطيات فإن فرص نجاح التجربة الكردية محدودة في ظل إجماع دول الإقليم على ضرورة إفشال هذا المشروع للحفاظ على وحدة أراضيها وسيادتها السياسية.

إن امتلاك الثروات أو غيابها ليس هو المقياس لنجاح الأقاليم بعد الانفصال، وإن العامل البارز هو العامل السياسي في الإقليم ومدى تجاوب الدول المحيطة مع هذه الانفصال
إن امتلاك الثروات أو غيابها ليس هو المقياس لنجاح الأقاليم بعد الانفصال، وإن العامل البارز هو العامل السياسي في الإقليم ومدى تجاوب الدول المحيطة مع هذه الانفصال
 

الدور الاقتصادي واتخاذ قرار الانفصال:
إن الاقتصاد يلعب دورا مهما في الترويج لقرار الانفصال حيث يقوم السياسيون باستثمار الحالة الاقتصادية لتحقيق أهدافهم الانفصالية (المبنية في غالب الأمر على دوافع قومية أو سياسية)، وعلى سبيل المثال نجد أنه تم الترويج لقدرة إقليم كردستان العراق الاقتصادية لما يملكه من ثروات وقدرات تمكنه من الاستقلال وبناء دول مستقلة، مع بعض التجاهل للصعوبات التي سوف تصاحب قرار مثل قرار الانفصال في ظل الاضطرابات السياسية المحيطة بالعراق داخليا وخارجيا، وبالمثل نجد أن لدى إقليم كتالونيا قدرات اقتصادية كبيرة تمكنه من بناء دولته المستقلة بعيدا عن التبعية الاقتصادية لإسبانيا إذا ما استطاع الحصول على الاعتراف والدعم الدولي.

وعلى النقيض من ذلك، تقوم العديد من الأحزاب السياسية التي تحقق مكاسب من وراء الانفصال باستثمار حالة الضعف الاقتصادي والمشاكل الاقتصادية المتفاقمة في الترويج إلى الانفصال على أنه هو إكسير الحياة الذي يجب شربه لمثل تلك المشاكل (مثل إقليم صقلية، وإقليم دارفور). ومما سبق نستنتج أن امتلاك الثروات أو غيابها ليس هو المقياس لنجاح هذه الأقاليم بعد الانفصال، وأن العامل البارز هو العامل السياسي في الإقليم ومدى تجاوب الدول المحيطة مع هذه الانفصال، إذ ما فائدة الثروات في كردستان في ظل انعدام المنافد وفي ظل الحصار، وهل لدى سكان إقليم كتالونيا القدرة على دفع فاتورة الانفصال خصوصا في ظل رفض دول الجوار الاسباني له.

وفي المقابل لا يمثل غياب الثروات وتفاقم المشاكل الاقتصادية عائق كبير لمثل هذه الاقاليم. وعليه فإن توفر أو غياب خطط تنمية وإصلاحات مبصرة في خضم وجود الحاضنة الدولية له مثل ما كان الشأن عليه في التجربة السنغافورية يحدد استباقا مستقبل هذه التجربة ومدة حياتها فرب انفصال لا يزيد إلا بعدا وتيها. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.