شعار قسم مدونات

حول التعليم والوعي.. مدارس أم سجون؟

Blogs-school
ربّما لم يكن التدريس خيارًا أسعى له كما أفعل عادة مع الأشياء التي أؤمن بها واختارها عن قناعة، أو حتى عن تعنت. لكنه الآن أكثر الأشياء التي أقبل عليها بحماسة كما لم أكن أعلم أن اللّغة الفرنسية -والتي درستها بشغف وهي تخصصي الثاني بعد الإعلام الآلي والبرمجيات- ستنتهي بي مُدرسةً لأطفالٍ أعلمهم الكتابة والقراءة بلغة أجنبية وبعضًا من ثقافة أصحاب هذه اللغة الجميلة 
       
طالما تخيلت نفسي أصلح لأي مهنة إلا التّعليم كونه مهنة حساسة تستلزم حضورا ذهنيا ونفسيا دائما لست واثقة من توفره لديّ. ربّما كنت أراني صحافية أنهي مشواري بأن أكون كاتبة تطوع الحرف على صفحات بيضاء أجلد ذاتي على مرأى من الجميع أمر على أعطابي الهامدة أنفث فيها روحا متوجهة تقرأ على صفحات كتاب غير أن الله -القوة العظيمة التي تُعجزنا- يضعنا على دروب أخرى للحياة عكس ما اخترناه لحكمة لا يعلمها إلا هو.
       
بعد الليسانس وموازاة مع دراسة الماستر وجدت نفسي معلمة بمئزر أبيض في قسم على أطراف المدينة في منطقة نائية تبعد عن مدينتي30 كلم على الحدود مع تونس قرب جبل جعل منه المتطرفون مكانًا يلجاؤون إليه للاحتماء من الأمن وجدتني شخصًا غريبًا فتح عينيه على عالم لا يعرف عنه شيئًا على بساطته الظاهرية يعلم أنه سيتوغل به لاحقا في كل تفاصيله فكل تفصيل تجربة وكل تجربة إنسانية حكمة لزمن لاحق.
                          

لا أريد أن أنسى أنّ تلك الأقدام الصغيرة كانت لا تأبه بمسافات وعرة ولا كلاب ضالة تهدد سلامتها طوال الطريق الرابط بين البيت والمدرسة
لا أريد أن أنسى أنّ تلك الأقدام الصغيرة كانت لا تأبه بمسافات وعرة ولا كلاب ضالة تهدد سلامتها طوال الطريق الرابط بين البيت والمدرسة
        
كانت حجرة القسم واسعة ومرتبة في حدود ما وفرته الظّروف والقائمون عليها أحاطتني عيون بريئةة ترمقني باستحياء وأقدام نصف حافية بأحذية مهترئة يخفيها أصحابها خجلًا قامات صغيرة وقفت تحية تسألني: هل أنت مدرستنا للّغة الفرنسية؟ أجبتهم: Oui.. je serai votre enseignante de français، في اندهاشهم قرأت رغبتهم في التّعلم وكانت حاجتهم للحبّ والعطف أكثر من كل ذلك، فبدأت رحلتي معهم. أردته تعليمًا مختلفا عما علق في ذاكرتي عن صورة المدارس الحكومية تعليما يستثمر في الإنسان وطاقته يمنحه حرية اكتشاف ذاته ويعبر عنها أردته تعليمًا يبني وعيا ومواطنة حقيقة فتنطلق رحلة البناء من قناعتنا أنّ على الكبار أن يكونوا أكثرا انتباها واحتراما لأفكار الصّغار.
    
في كل حصّة كنت أتعلم مع أطفال لم تتجاوز أعمارهم العشرة أعوام دروسًا كبيرة فأجبروني أن أتعامل معهم على أنهم عقول كبيرة أسمع أكثر مما أتكلم، نغني ونرقص معا نرسم ونقرأ، نكتب ونناقش أحلامنا. حدث أنّ عمال البلدية تأخروا في تزويد المدافئ بالبنزين في يوم شتاء بسبب سوء الأحوال الجوّية فقررت أن أقدم الدرس في ساحة المدرسة تحت أشعة شمس تتوارى تحت السّحب أحيانا وتظهر أحيانا أخرى استمتع الأطفال كثيرا ولم ينتبهوا لأنوفهم المحمرّة بردا ولم تعقهم أحذيتهم الممزقة التي كانوا يصرون على إخفائها كلما وقع نطري عليها.
             
لا أبالغ حين أقول إن تلك الصور هي أكثر الصور التي حُفرت بذاكرتي وقصمت ظهري مرات ومرات حتى إنني طلبت من صديق فنان تشكيلي أن يصنع لي حذاءً ممزقا حتى لا أنسى مطلقا أن أقداما في جزائر الاستقلال تقطع مسافات كبيرة بأحذية ممزقة لتتعلم وكانت تتعلم وتنجح وتصاب بخيبة أمل في آخر مشوارها. أليس من حق هؤلاء أن نوفر لهم تعليما على قدر طموحهم وذكائهم
لا أريد أن أنسى أنّ تلك الأقدام الصغيرة كانت لا تأبه بمسافات وعرة ولا كلاب ضالة تهدد سلامتها طوال الطريق الرابط بين البيت والمدرسة ولم تستسلم للظروف القاهرة لا شتاء ولا صيفًا.
        
علمني أطفال تلك المنطقة أن استحي من رفاهية المدينة حيث نعتقد أن أبناءنا يبذلون جهدا خارقا ليتعلموا بينما يدرسون في مدراس تقع قريبة من الأحياء التي يقطنون بها وفي أقسام مجهزة بتدفئة مركزية في حين ثمة من يقطعون مسافة ثلاثة كيلومترات ليلتحقوا بالمدرسة، أعترف اليوم أنني لم أكن أملك الشجاعة حين أنحيت في العديد من المرات لأرفع شيئًا سقط مني أو لأعيد ربط خيط حذاء أحدهم أن أقبل تلك الأقدام الصغيرة مربتة على قلوب أصحابها قائلة أنّ لا شيء يستدعي الخجل يا صغاري فبكم نتعلم معنى الإصرار.        

  
لا تكن معلمًا برتبة عسكري دون بزة في القسم، اخلع وجهك العبوس وكن طفلا بعقل ناضج مع أطفال غادروا أحضان أمهاتهم ليرموا أجسامهم الصغيرة وعقولهم في عالم تصنعه أنت
لا تكن معلمًا برتبة عسكري دون بزة في القسم، اخلع وجهك العبوس وكن طفلا بعقل ناضج مع أطفال غادروا أحضان أمهاتهم ليرموا أجسامهم الصغيرة وعقولهم في عالم تصنعه أنت
  

حين انتقلت للمدينة لأواصل التعليم اكتشفت عالما أخرا، أطفال يعنّفون بألفاظ قاسية وترسانة قوانين تحولهم من تلاميذ إلى جنود يلتزمون فقط بنظام قاس كل تمرد يعرض صاحبه لوابل من الصفعات والكلام القاسي دون أن نتساءل، أين ذهب الأطفال بتلك المواد التي حشوناها في عقولهم حين لم يحفظونها وعجزوا عن استيعابها وحملناهم فشلنا وفشل إصلاحات ندعيها، حين أبدي امتعاضًا يُقال لي، أنت تفسدين خلقهم بتخليك عن استعمال القسوة و كنت أعجز أن أشرح لهم أن الإحسان والطيبة يؤتيان أضعافا مضاعفة ما يؤتيه العنف وإنْ فشلنا في صناعة جيل كامل متعلم بسبب تعقيدات النظام التربوي والتعليمي لن نفشل في تنشئة جيل محبّ للحياة رحيم ببلده.
       
في حديث مع صديق حول تدريس أولاده في مدرسة بريطانية في إحدى دول الخليج وقفت على الهوة بين تعليمنا وتعليم الغرب وعمّا نؤمن به وما يؤمن به العالم من حولنا ذلك العالم الذي يبهرنا حضارة وقوة يكمن سرّه في امتلاك جيل أحسن تكوينه وتعليمه وثق فيه وفي قدراته فعامله على أنه شيء مهم بل إنه أهم شيء في مخططاتهم لمواصلة تقدمهم وتشييد حضارتهم وإثبات قوتهم وإن اختلفنا معهم في طريقة فهمهم للقوّة. يُستقبل أطفال المدارس البريطانية بابتسامة وترحيب وفي أحيان كثيرة برقص وغناء لامتصاص تلك الطاقة التي تعيق الطفل عن التركيز فيتمكن لاحقا من الانسجام مع معلمه وأقرانه دون أن يشوش على أحد.

         
في المقابل يستقبل أطفالنا بملامح صارمة توحي أن الطفل جاء ليمضي عقوبة في السّجن لا في مكان وجد ليتعلم فيه ويرفه عن نفسه. حتى تلك اللحظة التي يصطف فيها التلاميذ لتحية العلم يتحول الأمر لشبه عقوبة، ذاك أنْ لا أحد زرع في هؤلاء الأطفال معنى الوطن حقيقة -لا تنظيرا- ولا معنى أن تنتصب القامة حين يرتفع خفاقًا. لقد تحولت تحية العلم في الفترتين الصّباحية والمسائية إلى حركة روتينية يستعجل فيها الأساتذة قبل التلاميذ المغادرة. كيف حولنا أكثر اللحظات قدسية في حياتنا إلى مجرد عمل ممل وكيف حولنا مدارسنا إلى ثكنات عسكرية بدل أن تكون حقولا بورود مختلفة؟ كيف حولنا مدارسنا من معامل لبناء الإنسان إلى غونتنامو تكون فيها أجساد الأطفال المكان الأنسب لتفريغ غضب الكبار.
           
أخيرا معلمي معلمتي لا تكن معلمًا برتبة عسكري دون بزة في القسم اخلع وجهك العبوس وأتركه عند عتبات بيتك كن طفلا بعقل ناضج مع أطفال غادروا أحضان أمهات هم ودفء أسرتهم في صباحات الشّتاء ليرموا أجسامهم الصغيرة وعقولهم في عالم تصنعه أنت وتؤثثه على قدر إيمانك بما تحمله من رسالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.