ثم تشاء الأقدار أن تقوم ثورة أخرى (ولعلها الثورة المضادة) في ظروف أقل وضوحا- ولأسباب قد تبدو متسرعة وعاطفية بل ومفتعلة، لكن في سياقٍ آخر لتنتهي بالسيطرة، في فترةٍ وجيزةٍ، على كل مفاصل الدولة من جيش وشرطة وإعلام واقتصاد وتنتشر بين المدن كانتشار النار في الهشيم بلا أي مبرر منطقي من موازين القوى الطبيعية، حينها يبدأ التفكير في سياقات الأحداث التي تؤثر على المآلات، الفرق بين ثورة تتعرض للرصاص وأخرى تُذبح لها الذبائح، بين ثورة تتداعى الأمم لنجدتها بحظر الطيران في أولى أيامها وأخرى لا تزال براميل الطيران المتفجرة تلهب الأرض على مرأى ومسمع بل وبمساعدة دولية، الفرق يكمن في السياق وإن تشابهت الأحداث.
استطاعت مجاميع قليلة مدعومة بسياقٍ رابحٍ مٍنْ ثقل الدولة العميقة والإعلام الموجه والمال السياسي المدنس والرغبة الدولية، التغلب على حشود جماهيرية ضخمة تفتقر إلى السياق الرابح، فيما يبدو، لتعود العجلة في الدوران إلى الوراء.
لكن يبدو أن السياق لا يؤثر في مسار السياسة فقط، بل يتحكم أيضاً في المسارات الاجتماعية والقانونية، ففي الكثير من الفعاليات المجتمعية التي تجري في البلد، تحصد تلك التي توائم السياق أكبر النجاحات، بينما تخضع البقية للشروط والمواصفات الصعبة بل والتعسفية أحياناً ليتم وأداها في المهد، ليبدو الأمر كما لو كان كالتالي( لدينا قائد اجتماعي مرغوب فيه والمطلوب استحداث سياق أحداث للمساعدة في صناعته أو بزوغ نجمه )في مقابل الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون وهو ( لدينا عمل اجتماعي ما، مطلوب البحث عن قائد مناسب وكفؤ له بحسب القوانين).
تماماً كما يحدث في التعيينات الوظيفية في كل مفاصل الدولة اليمنية بكافة مراحلها بما في ذلك مرحلة ما بعد الثورة، البحث عن عمل مناسب لمَن هم في دائرة الاهتمام وفي نفس تيار السياق الرابح ذاته، ليتم تفصيل الوظائف، مهما عظُمت، على مقاس أولاد المسؤولين وأولاد أولادهم والتابعين لهم بإحسان من الأقربين . تتحور القوانين لتصبح مناسبة وتخفف الشروط ليصبح النقص فيها مسألة عابرة لا تؤثر على الرغبة العامة العارمة، وتصبح الشهادات والدرجات العلمية مجرد ديكور يحرص أولئك على تزيين صفحات سيرتهم الذاتية بها بعد ضمان المنصب حتى قبل الحصول عليها ومهما كانت طريقة الحصول على تلك الشهادات.
وفي الوقت نفسه ولكن في سياق آخر، يتم احتساب الشروط والمواصفات بالقلم والمسطرة واشتراط التقدير والخبرة والاعتماد من قِبل كل الجهات المعنية وغير المعنية عند محاولة أبناء الوطن العاديين الحصول على المنصب، لكي تصبح الصورة العامة هي أن ابن الوز؟ عوّام، وكله بالقانون وبما يرضي الله في زعمهم.
كذلك في تطبيق القوانين والعدالة، يستطيع سعيدو الحظ ذوو السياق الرابح تجاوز العقبات والخروج من المآزق القانونية (مثل الشعرة من العجين) بينما تطال البقية يد العدالة الناجزة فيما يبدو عدلاً بينما يسميه رسول الإنسانية، عليه الصلاة والسلام، هلاكاً للأمم، حين تطبق القوانين فقط على الضعفاء ويُترك الاقوياء النافذون.
في اليمن تلعب الجغرافيا أيضاً دوراً هاماً في تحديد اتجاه السياق الرابح، فيكفي الجغرافيا معينة مجرد القدرة على فك رموز الخط العربي لتولي مهمةٍ ما، فيما يشترط الإلمام بلغات أجنبية ومهارات إلى جانب الشهادات العليا عند الحديث عن جغرافيا أخرى تتطلع لذات المهمة.
حسناً، على المستوى الفردي قد يساعد السياق الرابح شخصاً يمتلك بعض القدرة أو الكفاءة وينجح في مهمته، لكن على مستوى العدالة الاجتماعية، يوجد هناك من أفراد الشعب مَن يتساوى في الحق معه وربما فاقه كفاءةً، ليصبح تعيين الأقربين محسوبية يعاقب عليها القانون، وخطيئة يحاسب عليها ربُ العالمين عند تعيين الأقل كفاءة لقرابةٍ أو لمودةٍ في وجود الأكفأ .
اعترافاً بالحقيقة، يبدو الأمر شاقّاً في بيئةٍ تعودت على الاحتكام لقانون القوة والغلبة لا على الحقوق والواجبات، لكنه المبدأ الذي نجحت في تطبيقه دول أخرى تراكمت لديها الخبرة لتصل إلى العدالة الاجتماعية على الأقل فيما يخص شعوبها، وهي الحقيقة التي يفسر الاقتراب أو الابتعاد عنها مكانةَ أمتنا في قائمة الأمم، كما أن المبدأ الشرعي أن من أخذ ما ليس له فإنما يقتطع لنفسه قطعة من النار مهما حصل على سياق يوهمه بالأحقيّة، ومن تدثر بما لا يملكه فإنما يلبس ثوب زُورٍ، سيورده التهلكة إن عاجلاً أم آجلاً.
ذاك هو السياق الرابح، من وجهة النظر الدنيوية البحتة، يقال عن صاحبه (إنه لذو حظٍ عظيم)، لكن في وجهة النظر البعيدة المدى، سواء في الدنيا أم الأخرى، ما هو إلا فساد قائم على الغلبة والسطو، والله لا يُصلح عمل المفسدين، ولا بدّ يوماً أن تدور الدوائر .
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.