شعار قسم مدونات

سأعلمهم بأن یفكروا قبل أن یحفظوا

مدونات - علم تدريس مدرس تعليم

وقد كانَ قد تم تفضيلنا عن الحيوانات بعقلنا. على الرغم من أن تركيب العقل البشري ليس بعيداً كل البعد عن العقل الحيواني، إلّا أنا قد تميّزنا بأن عقلنا يملكُ مقدرةً كبيرةً لا استهانةَ بها للتحليل والتفكير المنطقي واستطاعتهَ لحفظ الملايين من المعلومات والدلائل على شكل تنبيهات عصبيه، وغيرها من المهام التي يقومُ بها بشكلٍ لا نستطيعُ ملاحظته كمالكين للعضو الأكبر من الأعضاء المكونة للجهاز العصبي.
   
العقل البشري وبكلِّ عظمتِه لم يُكتشف كلّياً لحد اللحظة التي أكتب بها هذهِ المدونة، وما زال العلماء يحاولون حل المعضلات التي تقف في شق طريقهم لفهمِ عمل العقل بشكلٍ أكثر وضوحاً وحدّة، لأنه وبكل الكتب التي تفصّلُه، مازال العقل البشري مبهماً وغير واضحٍ تمام الوضوح.
    
هذا العقل وبكل ما فيهِ من خبايا رائعة، تبقى كميةُ المعلومات التي تحشى في تلافيفهِ أكبر بكثيرٍ من المعلومات التي تعالج وتحلل وتستنتج في غالبية شِعاب المناهج الدراسية العربية التي تقتصرُ بمجمل العمل التعليمي على الحفظ وتعبئة المعلومات دون الكثيرِ من الفهم أو التطرّق إليه أو لاستخدام المعلومات خارج نطاق أمثلةٍ رتيبةٍ ومعينة محرّمٌ علينا كطلّاب أن نخرجَ من صندوقها رغم أننا كأطفالٍ وشباب في أمسِّ الحاجة للفهم وتدريب أنفسنا على التحليل والتفكير في كل معلومةٍ قد نتلقّاها بغضِّ النظر عن وسيلة التلقّي، لكي يبقى عقلنا في دوام البحث والتمحيص الذي وبالتالي يعمق إدراكنا لما حولنا من أمور وأحداث تجري كل لحظة. وهنا تكمُنُ الفكرة، أي أننا نكون جاهزين تمامَ الجهوزية لتلقّي المعلومة وحفظها بسرعةٍ قياسية لكننا لا قدرةَ لنا للتحقق من المعلومةِ أو استخدامها بمجالٍ آخر غير الذي قد تم إعطاؤه لنا.
   
حتّى الرياضيات لم تسلم من عمليّة "التجهيل" التعليمية، وهي التي سُميت بالرياضيات لأنها تمرينٌ للعقل البشري ومنشطةٌ له. حيث أنني أذكرُ أنه كانَ علي أن أحفظَ عشرَ نظريات رياضية عن ظهرِ قلب في نهاية العام الدراسي الثامن بدون الاستناد لطلبٍ أو برهانٍ يرضي عقلي أو مخيلتي كطفلٍ في الثالث عشرَ من العمر، إنما استناداً للأوامر التي تملي عليَّ وعلى اثنين وأربعينَ آخرين أن ننسخَ المطبوعَ في صفحة النظرية "كانت نظرية فيثاغور" كاملاً دون تهميشٍ لأي حرفٍ أو إضافة أي رقمِ أو مثالٍ آخر. قالها الأستاذ عماد: "طلب، فرض، برهان.. لا تزيد، ولا تنقّص".

 

لماذا عليَّ مثلا أن أحفظَ قصيدةً أو خطاباً معيناً؟ هل أنا كطالب أحتاج حفظها إذا لم أكن هاوٍ للشعر والفراسة؟ أوليسَ الهدف من تعليمي تحليل القصائد والعمل بها؟
لماذا عليَّ مثلا أن أحفظَ قصيدةً أو خطاباً معيناً؟ هل أنا كطالب أحتاج حفظها إذا لم أكن هاوٍ للشعر والفراسة؟ أوليسَ الهدف من تعليمي تحليل القصائد والعمل بها؟

 
أنا لا ألغي أبداً فكرة استغلال الحفظ في الدراسة وبناء الأجيال، بل وإني أدعمها لأنها أساس لا مهربَ منه ولا حاجةَ للهربِ منه في مجالاتٍ محددة، لكنّي ضد اقتصارِ العملِ به فقط كحفظِ عن ظهر قلب دون معالجة للمحفوظات ضمن أمثلةٍ مختلفة تساعدُ في تثبيتِ المعلومةِ وعدمِ نسيانها، بل واستخدامها في مجالات الحياة خارج المدرسة بطريقةٍ شبه لا إراديّة، وهذا هو الهدف الأساسي لوجود المدرسة.

 
فلماذا عليَّ مثلا أن أحفظَ قصيدةً أو خطاباً معيناً؟ هل أنا كطالب أحتاج حفظها إذا لم أكن هاوٍ للشعر والفراسة؟ ألا يكفيني أن أتعلم أنَّ الثغرَ يعني الفم وأن الأنامل تعني الأصابع لكي أوسّع المدى الإدراكي للغة التي أحكي بها أو أتعلمها؟ أوليسَ هذا هو الهدف من تعليمي تحليل القصائد والعمل بها؟ ثم لماذا يجب أن يكون تحليلُ نصٍّ مبنيًّ على معاييرَ معينةٍ غير قابلةٍ للالتواء والإبداع الفكري؟ الكتابُ الأكثرُ تقديساً، ألا وهو القرآن الكريم، تكمنُ أهميتهُ في فهم معانيه الداخلية العميقة وليسَ في حفظهِ عن ظهرِ قلب دونَ معرفةِ الكلامِ والمعاني المكتوبة فيه. لسنا مضطرين لأن نكونَ جاهلين بشهاداتٍ لا تدلُّ سوى أننا قد ختمنا اثنى عشر أو ثلاثة عشر سنةً في حياتنا في مدرسة!
 
كم من أحدٍ كرهَ اللغةَ وجمالياتها وسحر شعرها ونثرها بسبب جمودِ العمل بها واستخدامها في المدارس! أنا شخصيّاً ما أحببتُ اللغةَ يوماً بسبب المدرسة، كنتُ أشعرُ بأن درس اللغة العربية ليس إلا عبارةً عن اعدامٍ جماعي للثلاثٍ وأربعينَ طالباً في صفنا الكبير على يدِ استاذنا الأشقر صاحب العبوس الغير منقطع.

 

هذا كلّه في كفة والـ "نوتات" في كفّةٍ أخرى.. نوتةٌ للتعاليل وأخرى للتعاريف، وواحدةٌ للمواضيعِ التعبيرية…إلخ. هذهِ النوتات التي أسميها بالسخيفة تحدُّ من استخدامِ العقل والتفكير المنطقي بشكلٍ مخيف جداً لأنكم كطلاب يتوجب عليكم أن تبصموا النوتة بكل ما فيها من كلامٍ منطقي وعلمي، لكنكم لا تملكون الحرية في شرح السبب الفلاني أو تعريف المادة العلانية بشكلٍ آخر، وما إن تجرّأتم وفعلتم، غدوتم بلا علامةٍ وبلا شهادةٍ مبروظةٍ تتباهون بها في صدر صالة منزلكُم، وإن سألكم أحد عن تعريفٍ أو تعليلٍ معين بعدَ استلامكم للشهادة، ستجاوبونَ بنفيِ معرفة الجواب لأنكم حفظتُم وحفظتُم دون أن تستخدموا المعلومات خارجَ صندوق النوتة أو حتى لم تستطيعوا اللعب بهنَّ داخل الصندوق، فأصبحت ذاكرتكُم كذاكرة السمكة، ما إن أنهيتم ووقّعتُم إنهاء امتحانكم حتى نسيتُم كل ما درستُم.   

 

لا ضررَ في الحفظِ أبداً.. الضررُ هو بأن يلغي الحفظ نشاطنا العقلي ويقصرهُ على مهمةٍ واحدةٍ فقط، لتُتركَ مواهبُ العقلِ الأخرى مهجورةً تأبى النشاط إلا بعدَ تعبٍ يُعيي النفسَ والشغف للمعرفة
لا ضررَ في الحفظِ أبداً.. الضررُ هو بأن يلغي الحفظ نشاطنا العقلي ويقصرهُ على مهمةٍ واحدةٍ فقط، لتُتركَ مواهبُ العقلِ الأخرى مهجورةً تأبى النشاط إلا بعدَ تعبٍ يُعيي النفسَ والشغف للمعرفة

 
كان أبي ينصحني دائماً، بأن أحوّل الدراسةَ إلى متعة.. حاولتُ كثيراً لكني خذلته وخذلت نفسي لأنهُ لا متعةَ أبداً في كوني عبداً لمعلومةٍ لا أستطيعُ أن أرسمَ لنفسي طريقاً آخر لأملكها غير أن أحملها حاشياً إياها بكلِ رتابتها رامياً بها في عقلي. ما زال السؤال الذي لاحقني في كل امتحانٍ أو تمرينٍ في مدرستي الألمانية هو عما إذا كانَ الأمرُ عاديّاً بأن أشرحَ شيئاً معيناً بطريقتي الخاصة غير مُنقصٍ للمعلومات الأساسية، وما زالت الإجابة التي تضربني كلما سألت السؤال، هي أني حرٌّ كل الحرية بالطريقةِ التي أريد الإجابةَ بها، المهم لكن هو أن يكون الجواب كافٍ ووافٍ، لا زائدٍ ولا ناقص.

  
هذا ما نحتاجه كطلابٍ في المناهج العربية.. نحنُ نحتاج الحرية، الحرية الكاملة في طريقة الإجابة. الحرية الكاملة في التفكير والتحليل. الحرية الكاملة في الرفض والنقاش بدون خوفٍ من علامةٍ قد "تُخسَف" أو عصى خشبية سترسِم الويلات على أيدينا إذا ما قلنا في وجه معلّمينا "لا"، حتّى ولو كاد المعلمُ أن يكونَ رسولاً.
   
لا ضررَ في الحفظِ أبداً.. الضررُ هو بأن يلغي الحفظ نشاطنا العقلي ويقصرهُ على مهمةٍ واحدةٍ فقط، لتُتركَ مواهبُ العقلِ الأخرى مهجورةً تأبى النشاط إلا بعدَ تعبٍ يُعيي النفسَ والشغف للمعرفة. لا خيرَ في علمٍ لا قابليةَ فيه إلى تفكيرٍ عميقٍ وتغيير. لا خيرَ في معرفةٍ باردة لا حرارةَ متعةٍ فيها تشعلها فورَ دخولها تلافيف الدماغ. لا خير أبداً..
 
سأعلم بناتي وأبنائي بأن يفكروا ويحللوا ويشككوا ويتحققوا من كلِّ فكرةٍ وكلمة ومن ثم أن يحفظوها. سأعلّمهم بألا يكونوا عباداً لعلمٍ باردٍ جامد لن ينفعهُم خارجَ أروقة المدارس الباردة التي تدعوا في النفس كره الأوراقِ ورائحتها الرائعة. وكم من عالمٍ ومفكرٍ ما كانت المدارس أساساً لما اكتشفوا وحققوا. سأعلم بناتي وأبنائي بأن يفكروا قبل أن يحفظوا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.