شعار قسم مدونات

في بلاد لا تعترف بالمنبوذين

Blogs- book
ها أنا أرسف في قيود لا حصر لها ولا عدد، فأنا في حربي مع نفسي ما أزال كالخشبة في البحر في صراعها مع الموج، فلا أنا سيد فكري أسيره كما أشاء، ولا أنا سلطان قلبي أجاريه على هواه، بل أنا على العكس من ذلك، ألعوبة لأفكاري، ومطية لأهوائي. ولن تتم لي الغلبة حتى أصبح السلطان المطلق على فكري وقلبي، لكن يبقى السؤال، كيف السبيل لذلك؟
             
حسنا! أنا مثقف. لكن ما المطلوب مني على وجه التحديد في مجتمعي العربي؟ ما أهميتي في ظل هذا الانعطاف التاريخي الذي تمر به أمتي العربية؟ هذه الأسئلة تهمني كثيرا في هذه المرحلة بالذات. لأن الواقع المرير قد وسع الهوة بيني أنا المثقف العربي وبينهم هم أهل الرأي والقرار، فصرت مجرد شخص منبوذ مهمش استنزفت ذاته وهذا قد يعطل عزيمتي المرتبطة بالرغبة في النهوض وإحداث تغيير ما. لم أعد أعرف ما لي وما علي، فقد كنت لا أبخل على منطقتي وشعبي بأفكاري التي كنت أعتقد أنها في مصلحته، والآن باتت تلك الأفكار مصدر وإزعاج يجب القضاء عليها والحد منها.
               
حاولت مرارا وتكرارا أن آتي برؤى جديدة للتقارب والتفاهم وهذا من شأنه أن يقلص مساحات الاختلاف والتنافر والتباغض الذي نعيش فيه. وحاولت كذلك توفير الكثير من الفرص للحوار وتبادل الآراء بين المثقفين والمبدعين الذي استوعبوا التغيرات التي يعيشها العالم وبين المسؤولين السياسيين وذلك لتقريب وجهات النظر حتى نعمل سويا ونضع قواعد موضوعية ونوفر مناخ ملائم يسمح لشعوبنا العربية التي تعيش حالة استثنائية بأن تسترجع بعضا من قوتها وكرامتها. فما جدوى أفكاري وخططي المستقبلية إذن؟ إن كانت ستقابل بالاستهزاء واللامبالاة!
              

ﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺮء ﻣﺜﻘﻔﺎ ﻓﻲ ﻭﻃﻦ ﻋﻘﻴﻢ ﻛﻬﺬﺍ؟ وطن لا يحترمني! ﻭﻃﻦ ﻻ ﻳﺠﻴﺪ ﺇﻧﺠﺎﺏ ﺍﻵﻣﺎﻝ ﻭﻳﺄﺑﻰ ﺗﺒﻨﻲ ﺃﺣﻼﻣﻨﺎ ﺍﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﺍﻟﻤﻌﻘﺪﺓ

إن المثقف هو الأسبق دائما في محاولة استشراف آفاق المستقبل، إنه يسبق في ذلك حتى السياسيين والمسئولين صاحبي القرار. الكاتب الكبير كافكا قال يوما ما مفاده أن رسالة المثقف -الكاتب تحديدا- هي أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية. أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق مع القانون العام. إن رسالة الكاتب نبوية.
             
فما جدوى وجودي إن كنت سألعب دور المتفرج، أجلس في المقاهي أدخن وأشاهد بمرارة قنوات الأخبار وهي تبث أخبار شعبي وهو يدمر؟ من الذي همش دوري إلى هذه الدرجة؟ لمن عساي ألجأ؟ أسئلة كثيرة تلعب بقنة رأسي كما يفعل الخمر ولا أجد لها جوابا! ﺻﺪﻗﻮﻧﻲ ﺇﻥ ﻗﻠﺖ ﺃﻧﻨﻲ ﺃﺟﺪ ﻧﻔﺴﻲ ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻒ ﺣﺮج كلما حاولت ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺗﻔﺎﻋﻞ ﻣﻌﻪ ﺃﻭ كلما حاولت ﺇﺑﺮﺍﺯ ﺍﻟﺨﻠﻞ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ فيه. ﻓأﺟﺪ ﻧﻔﺴﻲ ﻣﻀﻄﺮﺍ إما لأن ﺃﺭﻓﻊ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺇﻟﻰ مستواي وهذا مستحيل، ﺃﻭ ﺃﻥ ﺃﺗﻨﺎﺯﻝ ﺃﻧﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﺒﻴﺌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻋﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭهذا ما لن أرضاه لنفسي كشخص يحترم عقله.
              
ولن أرضى كذلك أن أكون من المثقفين المزيفين الذين يتملقون الحكام ويدعمون آراهم وقراراتهم. فمن العيب أن أساند الطغاة وأتجاهل الملايين الذين يلوكون الخشب خبزا، ويسبحون في بحر من التهميش والذل. أمر كهذا قد يحد من حريتي في التعبير وهذا عبئ آخر أحمله فوق ظهري. الأمر مضحك جدا، العالم يقترب من نهايته وأنا لم أحظى بعد بحريتي في التعبير! وهنا أعود لأتساءل، ﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺮء ﻣﺜﻘﻔﺎ ﻓﻲ ﻭﻃﻦ ﻋﻘﻴﻢ ﻛﻬﺬﺍ؟ وطن لا يحترمني! ﻭﻃﻦ ﻻ ﻳﺠﻴﺪ ﺇﻧﺠﺎﺏ ﺍﻵﻣﺎﻝ ﻭﻳﺄﺑﻰ ﺗﺒﻨﻲ ﺃﺣﻼﻣﻨﺎ ﺍﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﺍﻟﻤﻌﻘﺪﺓ.

       
ﺭﺑﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺜﻘﻒ ﺃﻥ ﻳﺼﺒﺢ ﺃﻛﺜﺮ ﻓﻄﻨﺔ ﻓﻲ ﻟﻌﺒﻪ ﻣﻊ ﺳﺨﺮﻳﺔ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻫﺬﻩ، ﻛﺄﻥ ﻳﺠﻴﺪ ﺍﻷﻏﺎﻧﻲ ﺍﻟﺮﺧﻴﺼﺔ ﻣﺜﻼ، ﺣﻴﻨﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻗﻞ ﺳﻴﺼﺒﺢ ﺻﻮﺗﻪ ﻣﺴﻤﻮﻋﺎ ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻳﺴﺄﻝ ﻓﻲ ﺇﺣﺪﻯ ﺍﻟﻠﻘﺎءﺍﺕ ﺍﻟﺴﻤﺠﺔ ﻋﻦ ﺁﺭﺍﺋﻪ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ وﺍلاﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ، ﻓﻴﺨﻠﻖ اﺳﺘﺜﻨﺎءا ﻟﻠﻤﺮﺓ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻭﻳﻔﻴﺪ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭ ﺑﺮﺃﻳﻪ ﻋﻮﺽ ﺗﻮﺯﻳﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻹﺑﺘﺴﺎﻣات ﺍﻟﺒﻠﻬﺎء ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻜﺎﻣﻴﺮﺍت ﻭﺇﻗﺤﺎﻡ ﺃﻟﺒﻮﻣﻪ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮ ﺍﻟﻤﺠﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺸﻬﺎ ﺍﻟﺒﻼﺩ، فإلى أن أفرض نفسي وسط هذا الزحام سأظل مجرد منبوذ في بلاد لا تعترف بالمنبوذين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.