شعار قسم مدونات

جمالٌ تلين به قسوة الحياة

مدونات - حديقة جمال منظر طبيعي

دائمًا ما يحفز كل جميل نفوسنا نحو السعي لامتلاكه بعد استحواذه على عقولنا وقتًا طويلًا، لكن الجمال أحيانًا يبلغ من الأشياء حولنا حدًا يشق علينا المثول أمامه بذواتنا الحقيقية التي لا يخفى على الناظر إليها من بعيد ما تعانيه من إضناء وتعب، ومن ثم يقودك الجمال لأن تقابله بجمال مقارب.
 
بعض الجمال يجردك من فطرتك الإنسانية المحبة للاقتناء في لحظة تختلط فيها داخلك مشاعر الدهشة والتمني والثورة، تقف مشدوهًا كيف اعتصرك زحام العالم حتى أصبحت هذا المتدني بفطرته إلى الحيوانية بحبه للتملك، متمنيًا أن تكون شخصًا على درجة أعلى من الإنسانية بقدرته الأكبر على المشاركة والعطاء، ثائرًا على الأيام التي وقفت حائلًا بينك وبين بلوغك هذا الجمال، ثم ينقلك إلى حالة ملائكية لا تكون معها إنسانًا يتمنى ربط هذا الجمال في أذهان الناس باسمه أو الاحتفاظ به لنفسه وإنما روح ترك فيها الجمال سحره ففضلت على حجبه أن تطرحه للناس يتناولونه فيمضي من أذن إلى أذن إن كان مسموعًا، ومن عين إلى عين إن كان مرئيًا؛ تاركًا في قلوب السامعين والرائين السحر ذاته.
 
ولما كان لي نفس تستطيب تشبيه الجمال بالضياء، أرى بها أن منه الوهج الذي يعمي والنور الذي يبين، فإن أقدر الجمال على النحت بقلبي هو ما كان وهجًا يكاد يعمي ولا يعمي، وهذا "الوهج الذي يكاد يعمي ولا يعمي" هو مسمى طويل لمجال من الجمال ضيق جدًا، حيث يقع الجمال الذي أقصد، طراز لا يختلف عليه هذا العالم الذي جُبِل على الاختلاف، وخلاصة فن أصيل عظيم، درجة من الإبداع يسعى كل فنان لبلوغها ولو مرة واحدة في تاريخه كله، جمال نادر التكرار والحدوث، جمال بسيط، له فلسفته ولكنه على ذلك لا يحتاج إلى عين خاصة أو ذوق معين ولا يخاطب فئة دون أخرى، فقد يجذب انتباه طفل في العاشرة من عمره وشيخ تجاوز السبعين، ويُبقي بصمته بعمق واحد في نفس حداد ووزير بالدولة .
 

منذ أول مرة قرأت فيها العبقريات وأعمال الرافعي وروايات نجيب ما انفككت أتمنى في كل مرة أعيد فيها القراءة لو أنها مرتي الأولى، ولم رأتردد أبدًا في إعارتها للمقربين مني بل أزيدهم منها بدافع نشر الجمال
منذ أول مرة قرأت فيها العبقريات وأعمال الرافعي وروايات نجيب ما انفككت أتمنى في كل مرة أعيد فيها القراءة لو أنها مرتي الأولى، ولم رأتردد أبدًا في إعارتها للمقربين مني بل أزيدهم منها بدافع نشر الجمال

 

أتجول بين عبقريات العقاد ووحي قلم الرافعي فأشعر بكلماتهما وتعبيراتهما تجري مني مجرى الدم فيسحرني بيانها وتحيي عقلي، واقرأ روايات نجيب محفوظ فأحسها مني وأنني منها، ويصلني من ثلاثتهم الوهج نفسه على اختلاف أساليبهم ومدارسهم .
 
وأنا منذ أول مرة قرأت فيها العبقريات وأعمال الرافعي وروايات نجيب محفوظ ما انفككت أتمنى في كل مرة أعيد فيها القراءة لو أنها مرتي الأولى، ولا أذكر أنني ترددت أبدًا في إعارتها للمقربين مني بل أزيدهم منها بدافع نشر الجمال، ولا أخجل من بوحي بأني في لحظات التفكير العفوي لا أتمنى امتلاكها قدر ما أتمنى لوكان بإمكاني طبع كلماتها على جبيني ليقرأها كل الناس، ولو أتيح لي ذلك وشرعت في اختيار أجمل المقتطفات من هذه الكتب لتدوينها على قصاصات جاهزة للصق لانتهيت إلى كومة من الورق عليها ما ضمته هذه الكتب مجموعة لأن الجمال في كل سطر وفي كل كلمة.

 
مزيج ممتع من البساطة والتعقيد، فللعقاد يقرأ المسلمون الجدد وكذلك من نشأوا نشأة إسلامية من محبي آل البيت وصحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الكرام، وتسكن كتب الرافعي بيوت القراء المبتدئين وأيضًا مكتبات المخضرمين في القراءة، بل إنني لشدة جمال ما قرأت للرافعي وحفظت عنه قد يبلغ بي الظن أنه إن وصف لي ورقة بيضاء ممزقة لا حاجة للناس فيها أو مسمارًا صغيرًا أكل الصدأ منه ما أكل لاستولى على مشاعري وصفه حتى نسيت أنها ورقة ممزقة وأنه مسمار صدئ وربما وقعت في غرامهما.
 
كذلك هي لوحة فان جوخ "De sterrannacht" أو "الليلة المضيئة بالنجوم" التي ما رأيتها في يوم إلا ظهرت لي أحسن مما كانت، حتى أظن أن الأيام بشمسها تزيد ألوان اللوحة كل نهار شعاعة ساحرة، وأن الليالي بقمرها تترك لها بريقًا ونضرة، وأيضًا لحن "أنت عمري" لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي يتسرب إلى مسامعك كل مرة وكأنها الأولى، ويسري في نفوس أبناء الشرق والغرب، فتتمايل عليه صبية عربية وتتراقص له فتاة فرنسية، ينام على دندنتها رضيع ويسهر على نغماتها عاشق، والسر مرة أخرى في التوازن الساحر.

 

 لوحة ليلة النجوم لفان جوخ (مواقع التواصل)
 لوحة ليلة النجوم لفان جوخ (مواقع التواصل)

 

ربما كان حبي لتحليل الجمال إلى عناصره وفصله إلى مكوناته دور كبير في إدراكي مؤخرًا أن هذا النوع من الجمال مميز لأنه يحقق بسهولة عجيبة التوازن المرجو بين البساطة والتعقيد، فهو جمال بسيط يجذب الصغار والكبار، ومعقد يقتضي فهمه والإعجاب به فلسفة مميزة تليق بقيمته، تنظر إليه أولًا بعين الرائي فيبدي لك من نفسه قليل يجذب انتباهك لتُرجع البصر ناظرًا بعين المتأمل، وتلك هي المحطة التي يفصح عندها جمال النظرة أو الكلمة أو الصورة أو اللحن أو التصرف عن نفسه فتستحيل معه نظرتك إلى نظرة مستهام يرى الجمال أمامه مضاعفًا في كل مرة وهو على ذلك حتى يملك عليه جمال ما رأى عقله وقلبه.
 
للأسف، يزداد مجال "الوهج الذي يكاد يعمي ولا يعمي" ضيقًا كلما اتسعت العولمة؛ فاتساعه مرتبط باتساع صدور المستقبلين وسكون نفوسهم؛ ولأن هذا الأمر بات نادرًا في عالمنا الصاخب فكثيرًا ما يفوتنا لمس هذا النوع من الجمال والاستمتاع به؛ لكنني ولحسن حظي ألمسه كلما سمحت لي الفرصة، أستدعيه بتكرار قراءة هذه الكتب والنظر إلى "الليلة المضيئة" وسماع "أنت عمري" وغير ذلك من الأشياء القديمة التي تقع في هذا الحيز المهيب من الجمال وتتصبر بها نفسي إلى الحين الذي يظهر فيه جمالًا جديدًا يماثلهم، ولولا قوة أملي لظننت -لروعة ما قُدم- ألَّا موازٍ في الجمال لما مضى يمكن تقديمه اليوم، رغم أن قليل من التفكير سيثبت لنا أن الأمر جد بسيط، فهذا النوع من الجمال يمكن نشره بيننا فلا يغدو بعد ذلك نادرًا ويتحقق لنا فرصة لمسه مهما انشغلنا، إذا ما تم تحقيقه بفنون التعاملات، فيتجلى في نظرة حانية لأبيك وأمك ورفاقك أو تصرف لطيف مع من حولك أو لفتة خفيفة تلين معها قسوة الدنيا وتلطف الحياة على الناس وترفق بقلوبهم المنهكة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.