شعار قسم مدونات

أن تقع في حب مدينة

blogs - الحمراء الأندلس غرناطة
قلب هش ذاك الذي ينبض بداخلك لمدينة تراها لأول مرة! أية عاطفة مشبوبة تشدك إلى قرطبة شدا بحبال من ولع ووجع وأنت جاث في محرابها كعاشق متعبد! انطلقت عواطفنا من إشبيلية تسبقنا متلهفة إلى معانقة تلك الحسناء البعيدة بنحو 130 كيلومترا. جلسنا نحن الاثنين في المقعدين الأماميين لحافلة تسير بخفر. كانت قد تسللت مبكرا تاركة إشبيلية غارقة في كسلها الصباحي وسلمت عجلاتها للطريق السيار. 
انطوت الساعتان بسرعة ولاحت في الأفق سلاسل جبال سييرا مورينا وهي تحتضن أطراف قرطبة كأم رؤوم شاهدة على فتح الأمويين عام 138 الهجري، وعلى سقوطها سنة 633 هجرية على يد فيرناندو.
عند الوصول، لفظتنا محطة الحافلات إلى ساحة الثقافات الثلاث Plaza de tres culturas، ومنها إلى شارع المستعربين Los mozárabes المحفوف بمنتزه باذخ. قادنا الشارع الصاعد جنوبا إلى إحدى أبرز بوابات قرطبة القديمة وهي بوابة إشبيلي ببرجيها الضخمين الصامدين في وجه الزمن.

أمام البوابة ساقية عريضة ينعكس في مياهها الصافية البرجان والأشجار المتنوعة وهي تطاول السور الممتد. ولجنا من البوابة التي كانت تبدأ منها قرطبة قديما، فطالعتنا أزقة ضيقة لا تكاد تبلغ في عرضها ثلاثة أمتار، تؤثثها أحجار مرصوفة بعناية وقطع رخام بنية اللون. ذلك حال الأزقة والشوارع الصغيرة المتاخمة لجامع قرطبة المتربع وسط المدينة. أما المنازل فهي من طابق أو طابقين يطغى عليها الطلاء الأبيض، مسقوفة بالقرميد الأحمر، أبوابها مستطيلة تستلهم الباب الأندلسي.

غرب قرطبة لاحت لنا الطريق المؤدية نحو مدينة الزهراء الأثرية، وإمعانا في التورط في حب قرطبة، كنا قد عزمنا أن نخصص لها صباحا كاملا في الغد
غرب قرطبة لاحت لنا الطريق المؤدية نحو مدينة الزهراء الأثرية، وإمعانا في التورط في حب قرطبة، كنا قد عزمنا أن نخصص لها صباحا كاملا في الغد
 

في مدخل البيت تكون هناك باحة غالبا ما يتم تحويلها إلى محلات تجارية تعرض فيها منتوجات حرفية يقبل عليها السياح بنهم عارم. وأغلب هذه المحلات والنزل تحمل أسماء ذات أصول عربية عاينا منها: فندق الأمويين، مطعم البيت الأندلسي، قاعة الشاي أركانة، نزل مرسية.

مرورا بالحي اليهودي Calle de los judios، طالعتنا بيوت خاصة على شكل متاحف أبرزها البيت الأندلسي، وبيت Sefara اليهودي، ثم معرض الصناعات الحرفية المسمى Zoco وهي صيغة معربة عن السوق، فهنا تعرض منتوجات تقليدية أبدعها الحرفيون بحس أندلسي رفيع من مواد مختلفة كالخشب والرخام والفخار والمعادن والجلود وغيرها. ونمضي في هذا الحي حتى يطالعنا تمثال ابن ميمون Maymonides أبرز الفلاسفة اليهود الذين شكلوا دعامة نهضة قرطبة في عصرها الذهبي إلى جانب المسلمين ابن عربي وابن رشد ، هذا الأخير يوجد تمثاله خلف السور، قريبا من بوابة إشبيلية التي سلكنا منها.

خرجنا من بوابة سانتا كتالينا شرقا وملنا جنوبا بمحاذاة السور، سرنا ونحن نطاول بأعيننا الأعمدة الشاهقة الشاهدة على أمجاد الماضي وآيات الإعجاب والحنين يلهج بها لساننا

ومن ساحة ابن ميمون عبرنا إلى تخوم جامع قرطبة، وقفنا متطلعين إلى أسواره وأعمدته الهائلة، ورحنا نلتقط صورا لأبوابه المرصعة بالنقوش والكتابات العربية. بدءا ببوابة السباطالتي كانت فيما سبق، كما حكي لنا فيما بعد، متصلة بالقصر الأموي يعبر منها الخليفة إلى الصلوات في الجامع. تتبعنا السور والأعمدة المتينة إلى أن وصلنا البوابة المسماة العفو Puerta del perdó وهي المدخل الرئيس للجامع منذ بنائه على يد عبد الرحمن الداخل، فوقه مباشرة تنتصب المئذنة الشاهقة الطاغية على سماء قرطبة، والتي لا تزال تحمل آثار وكتابات المسلمين رغم الطمس الذي طالها لما أضاف إليها إرنان رويث الثالث
أجراسا كما قرأنا في الدليل.

دخلنا إلى الباحة العامرة بالسياح، صحن تشمخ فيه النخلات وأشجار الليمون. لعلها من النخلات التي جلبها عبد الرحمن الداخل معه من المشرق، فذكرته في قصر الرصافة بغربته وراح يناجيها شعرا:
ﺗﺒﺪّت ﻟﻨﺎ ﻭﺳﻂ ﺍﻟﺮّﺻﺎﻓﺔ نخلة *** ﺗﻨﺎﺀﺕ ﺑﺄﺭﺽ ﺍﻟﻐﺮﺏ ﻋﻦ ﺑﻠد ﺍﻟﻨﺨﻞ

في الباحة اقتنينا تذكرتي الزيارة، ودخلنا إلى المسجد، سلمت لنا خريطة الجامع، فيها تم توضيح مراحل بناء وتوسعة المسجد عبر العصور منذ عهد عبد الرحمن الداخل الذي بناه أول الأمر، مرورا بعبد الرحمن الثاني الذي وسعه، فالمستنصر بالله الذي زاد في توسيعه، ثم المنصور صاحب التوسعة الإسلامية الأخيرة، ليأتي دور الأسقف الونسو مانريكي حيث بنى هو وابنه الجزء العمودي الموالي للوادي الكبير جنوبا.

المسجد من الداخل يقوم على أعمدة رخامية تنهض عليها أقواس مزدوجة متعاضدة مزخرفة بكتابات تؤكد القيمة الجمالية للحرف العربي. كما زخرفت العنابر بتوريقات بديعة مستوحاة من النباتات والزهور. أضف إلى ذلك براعة التنظيم ودقة التناظر الهندسي التي تسم بميسمها أجنحة الجامع وزواياه وأبعاده. فهو مهندس على نسق المسجد الأموي في دمشق. ويبرز في الجهة الشرقية المحراب ببهوه ذي القبة الفريدة المشكلة من قطع حجرية بنية اللون مدببة ومربعة الشكل.

شاهدنا المدينة وهي تلتحف ثوب المساء. من عل تبدو المآذن التي تحولت إلى أبراج لحمل الأجراس. أي جرم لا يغتفر هذا الذي ارتكبه المسيحيون في حق التاريخ؟!
شاهدنا المدينة وهي تلتحف ثوب المساء. من عل تبدو المآذن التي تحولت إلى أبراج لحمل الأجراس. أي جرم لا يغتفر هذا الذي ارتكبه المسيحيون في حق التاريخ؟!
 

خرجنا من بوابة سانتا كتالينا شرقا وملنا جنوبا بمحاذاة السور، سرنا ونحن نطاول بأعيننا الأعمدة الشاهقة الشاهدة على أمجاد الماضي وآيات الإعجاب والحنين يلهج بها لساننا دون انقطاع. بعد جولات واستراحة في أحد المحلات، يممنا الزاوية الجنوبية الغربية للمسجد، هناك التقينا بسائح مغربي بادرنا بالكلام لما سمع دارجتنا تعلو في سيل اللغات المتدفق من ألسن جنسيات عديدة. تعارفنا مع المراكشي، بداله المعطشة، أفاض في الحديث والشروحات. وهنا أرانا آثار المكان الذي قامت فيه بوابة مقصورة الخليفة المستنصر بالله والتي كانت تصل القصر ببوابة السباط معبر الخليفة إلى الجامع لأداء الصلوات.

وأضاف أن بوابة المقصورة تلك انتزعت من مكانها ونقلت قرب ضفة الوادي الكبير، ليبنى على جانبيها سور يفصل الجامع عن الشارع الممتد على ضفة النهر. من هذه البوابة دلفنا إلى الشارع المبلط بالحجارة المستطيلة، ومنه إلى القنطرة الرومانية الضخمة التي ينتصب في منتصفها تمثال القديس رافاييل. نصل إلى الضفة الأخرى، من هناك نلقي نظرة على الجامع ومئذنته المشرئبة في كبرياء يغيض التاريخ. قبل أن نستعد لخوض غمار آخر، وهو الدخول إلى متحف القلعة الحرة.

في طرف القنطرة الرومانية بتلك الضفة ينتصب برج عملاق تحول إلى متحف، ولا يزال يحمل اسمه العربي: برج القلعة الحرة Torre calahora. وهو عبارة عن متحف يطلق عليه متحف الحياة الأندلسية أو متحف الثلاث ثقافات. هو متحف تاريخي للأندلس عامة ولقرطبة خاصة. فهو يعبر عن التسامح الذي غمر المدينة بين المسلمين والمسيحيين واليهود.

لم أتذكر تاريخ بناء الخليفة عبد الرحمن الناصر لها، لكني تذكرت تغزل ابن زيدون بولادة بنت المستكفي وهو صاعد إلى الزهراء سالكا ذلك الطريق
حجزنا تذكرة الزيارة وأعطي كل واحد منا سماعة وجهاز يقدم تعليقا عن كل غرفة من غرف المتحف. تختار بين لغات أربع هي الإسبانية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. ولكم تأسفت لغياب اللغة العربية في الدليل الصوتي! كيف لا أتأسف والمتحف كله تؤثثه حياة العرب الأندلسية؟!
ضبطت الجهاز على اللغة الفرنسية بمساعدة موظف شاب يرطن فرنسية ضعيفة، اقتحمت الغرفة الأولى، رقنت رقم الغرفة على شاشة الجهاز، فأتاني صوت فرنسي رصين مرفق بموسيقى أندلسية حالمة، وهو يشرح ما أراه أمامي من مجسمات تحكي تفاصيل الحياة الأندلسية في عصرها الذهبي، كنظام الري الذي ابتدعه المسلمون، وصورة الحياة في القصور. وهنا ترى لوحات التسامح بين الديانات الثلاث، وإنجازات العلماء المسلمين في الطب والفلك والجغرافيا، وآلات الموسيقى الأندلسية وغيرها.

في إحدى هذه الغرف المسماة غرفة الفلاسفة، تدخل، تكبس زر الجهاز، فيأتيك صوت ابن رشد وأنت تشاهد تمثاله مضيئا وفي يده طرس مطوي، مما جاء في صوته الفرنسي قوله: فلسفتنا ليست ذات جدوى إن لم تكن قادرة على الربط بين العلم والدين.. ثم ينتقل المؤثر البصري إلى تمثال ابن عربي الذي يقول: الله توحد، توحد العشق والعاشق والمعشوق، وكل عشق هو رغبة في التوحد، وكل عشق، بإرادتنا أو بدونها، هو تقرب إلى الله.. ثم يأتي دور ابن ميمون والملك ألفونسو العاشر.. فهؤلاء الأربعة، أعمدة السلطة والفلسفة، وممثلو الديانات والثقافات الثلاث، الذين يجمعهم الحوار حول الدين والحب والحياة، هم شهود القرنين الثاني عشر والثالث عشر، الذين حملوا إلى العالم، في تلك العصور الذهبية.

ومن الطابق الثاني للمتحف البرج حيث مجسمات الجامع الأعظم وقصر الحمراء وأبواب وأسواق قرطبة، صعدنا عبر درج ضيق لا يسع إلا لعابر واحد، إلى سطح البرج الشاهق. من تلك النقطة الشماء المشرئبة على سماء قرطبة، شاهدنا المدينة وهي تلتحف ثوب المساء. من عل تبدو المآذن التي تحولت إلى أبراج لحمل الأجراس. أي جرم لا يغتفر هذا الذي ارتكبه المسيحيون في حق التاريخ؟! أما كان عليهم أن يحافظوا على رموز الإسلام بعد رحيل أهلها؟!

من هناك غرب قرطبة لاحت لنا الطريق المؤدية نحو مدينة الزهراء الأثرية، وإمعانا في التورط في حب قرطبة، كنا قد عزمنا أن نخصص لها صباحا كاملا في الغد. لم أتذكر تاريخ بناء الخليفة عبد الرحمن الناصر لها، لكني تذكرت تغزل ابن زيدون بولادة بنت المستكفي وهو صاعد إلى الزهراء سالكا ذلك الطريق، كان يردد:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا *** والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.