شعار قسم مدونات

تركيا بين حليف وخصيم

blogs - أردوغان مع الجيش التركي
على الرغم من أنها بدأت كجميع ثورات الربيع العربي حراكاً محلياً مطالباً بالحرية للشعب السوري وحق الديمقراطية، إلا أن القضية السورية أصبحت صراعا بين القوى الإقليمية على نفوذها في المنطقة وأصبح الملف السوري يترأس قوائم نقاشات المجالس والهيئات الدولية في المنطقة، مما أدى إلى وصول الثورة السورية إلى طريق مظلم يسوده التعقيد وغياب القيادة التي تتمتع بالاستقلالية السياسية والعسكرية مجبرة للانحياز لأحد الأطراف المسيطرة.
وقد حرص اللاعبون الأساسيون في الملف السوري رغم وجود إحصائيات مهولة تتمثل في ملايين الجرحى ومئات الألوف ممن لقوا منيتهم، بالإضافة إلى أكثر من 117 ألف معتقل في عتمة السجون على تسوية الوضع بشكل سياسي عبر مبادرات أُثرت وتجلّت في مفاوضات جنيف وأستانا وغيرها.
وكان لتركيا دور كبير في المساهمة بملف المسألة السورية سواءً على المستوى السياسي في احتضانها لقوى المعارضة الثورية والسياسية في جغرافيا أرضها أو العسكري مؤخراً، ارتسم ذلك في عملية "درع الفرات" ودخول مدينة إدلب في الشمال الغربي من سوريا آخراً ضمن ما يُطلق عليه عملية "سيف الفرات".

حظيت قوات داعش بتقدم كبير في أراضي سوريا الشرقية وبدأ تقدمها بينما كانت القوات الكردية وبدعم أميركي قد أحكمت السيطرة على مساحة شاسعة من الأراضي السورية الحدودية مع تركيا
حظيت قوات داعش بتقدم كبير في أراضي سوريا الشرقية وبدأ تقدمها بينما كانت القوات الكردية وبدعم أميركي قد أحكمت السيطرة على مساحة شاسعة من الأراضي السورية الحدودية مع تركيا

الدبلوماسية التركية
إلى حين اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا كانت العلاقات السورية التركية في طور تقدم عالِ أشبه بالعلاقة الزوجية، وقد عقد الطرفان العديد من الاتفاقات، حيث تم فتح الحدود وإلغاء تأشيرات المرور للعبور عبر الدولتين، كما أصبحت البضائع التركية في موضع منافسة للبضائع السورية في أسواق حلب ودمشق. كما حرص الجانبان على وجود سياسة مشتركة تهدف بمنع "الأكراد" من إقامة دولة لهم في المنطقة والذي هو في نظرهم أمر غير مرغوب به ومرفوض.

وبعد اندلاع ثورة الشعب دخلت هذه العلاقة في مرحلة مضطربة جافّة اهتزت بسببها روابط الثقة، وأقدمت تركيا بالتعبير عن موقفها من الأوضاع الدائرة في سوريا بالاستنكار والرفض المستمر لأسلوب مواجهة النظام السوري لاحتجاجات الشعب المطالبة بالحرية للمعتقلين القابعين في سجون الأسد وحق العيش في دولة مدنية بعيداً عن الطائفية والتفرقة على أساس العرق أوالمذهب.

وكست الجمهورية التركية المتمثلة في رئيس حكومته "رجب طيب أر دوغان" نفسها بثوب النصح، ظهر ذلك في عدة دعوات وجهتها تركيا لنظام الأسد مطالبة إياه بالتوقف عن قمع المدنيين، وأخذت تردف النصائح الأبوية والمدرسية حيناً وتوجه التحذيرات والتهديدات حيناً، فكل السوريين لا يمكن أن يغيب عن خاطرهم تصريح "رجب طيب أر دوغان" الشهير لن نسمح بحماة ثانية، متجهاً بذلك لما حدث في عهد الراحل الأسد الأب وجرومه القبيحة في مدينة حماة عام 1982م كما هو محفور في ذاكرة السوريين.

بقيت تركيا ولمدة خمس سنوات تتحاشى الخيار الذي كان يتساءل عنه كثير من المراقبين، إذا ما كان باستطاعتها الإقدام على عمل عسكري في سوريا

وقد اعتبرت تركيا أن ما يجري في سوريا شأن داخلي تركي أيضاً، كان معبراً عنه "رجب طيب أردوغان" مشيراً في الوقت ذاته إلى طول الحدود المشتركة بين البلدين والذي يزيد عن 850 كيلومترا رغبة منه بإيصال رسالة ربما أن ما قد يجري في سوريا سيؤثر بالمقابل على تركيا.
زيادةً على ذلك ترأس وزير الخارجية التركي في تلك الفترة "أحمد داود أوغلو" زيارةً لسوريا كانت محاولة أخرى منهم لإيصال الأوضاع لحال يرضي الأطراف ويحقق الأمان لهم ولكنه عاد خالي الوفاض، ورغم سحب بعض الدول العربية سفراءهم من سوريا تحدث أوغلو عن أن مسألة مطالبة السفير السوري بالرحيل في ذاك الوقت سابق لأوانه.

كان واضحاً من الجانب التركي رغبته في الاستمرار بالمنهج الإصلاحي وتطبيق سياسة صفر مشاكل في العلاقات الخارجية، ولم تخرج عن هذا المسار أبداً، مما أدى إلى وصول الأوضاع في سوريا إلى حال يصعب فيه وجود حل يرضي الأطراف التي أقحمت نفسها في هذه القضية، والأهم من ذلك حل يصب في مصلحة الشعب ويحقق مطامحه.

تأكيد تركيا الاستمرار في هذا المنهج والحذر الشديد، قد يكون مؤشرا على عدة أمور ترغب تركيا في الحفاظ عليها، ورغبتها في البقاء في موقع المستفيد ضمن أقل تضحيات ممكنة. ومن المحتمل أن تكون مسألة الشأن الكردي أحد أهم هذه الأمور وعاملا رئيسيا، فوجود قرابة المليونين كردي في الحدود التركية قبالة الأراضي السورية ربما يشكل قلقاً وخوفاً لدى تركيا العدالة والتنمية من حملهم للسلاح مرة أخرى. لذا فإن من مصلحة الأتراك الإبقاء على سوريا دولة واحدة وذلك حرصاً منهم على سلامة أمنهم القومي الذي هو في مرحلة تهديد دائم من الكيان الكردي.

أدى التسارع في الأحداث إلى إرغام تركيا التخلي عن سياستها تجاه سوريا والتي كانت مقتصرة على الدعم الإنساني لللاجئين ورعاية المعارضة السياسية على أراضيها
أدى التسارع في الأحداث إلى إرغام تركيا التخلي عن سياستها تجاه سوريا والتي كانت مقتصرة على الدعم الإنساني لللاجئين ورعاية المعارضة السياسية على أراضيها
 

الظروف في تركيا ستبقى في حالة تأهب متواصل وحذر شديد، فقد عانت الكثير ولا تزال في مرحلة تتوعد أمنها القومي بالخطر، وكانت السياسة التركية في التعامل مع الملف السوري أحد أهم العوامل الذي أدى لتغيير المسار من ثورة شعبية مطالبة بالديمقراطية وإقامة الدولة المدنية التي تحضن كافة فئات الشعب السوري إلى هاجس كبير بتقسيم المنطقة على أساس عرقي وطائفي.

ماذا عن الخيار العسكري؟
بقيت تركيا ولمدة خمس سنوات تتحاشى الخيار الذي كان يتساءل عنه كثير من المراقبين، إذا ما كان باستطاعتها الإقدام على عمل عسكري في سوريا وخاصةً بعد خسارة المعارضة السورية أمام القوات الروسية الذي بدأ تطفلها بشكل رسمي في سوريا نهاية أيلول 2015م، والتي كانت تهاجم قوات المعارضة العسكرية جواً بالقنابل العنقودية والفوسفورية والذي منح ميليشيات الحرث الثوري الإيراني وقوات حزب الله اللبناني سيطرة أكبر على أرض القتال، لم تحظ بها منذ تدخلها بداية 2013م بحجة حماية مقدساتهم داخل أراضي سوريا أو أنهم كانوا متفقين ويقودون عملية مشتركة ضد المعارضة دون تصريح مباشر بذلك.

في تلك الفترة، وفي منتصف 2014م، حظيت قوات داعش بتقدم كبير في أراضي سوريا الشرقية وبدأ تقدمها بينما كانت القوات الكردية وبدعم أميركي قد أحكمت السيطرة في بداية 2016م على مساحة شاسعة من الأراضي السورية الحدودية مع تركيا، تمتد من محافظة الحسكة في الشمال الشرقي وحتى مدينة الرقة في منتصف الشمال، بالإضافة إلى مدينة عفرين التابعة لمحافظة حلب.

هل يملك السوريون بكافة الأطياف ثوريين كانوا أم سياسيين مدنيين وعسكريين التمييز بين حليفهم وخصيمهم، وما هي حدود الحليف وصلاحياته

أدى هذا التسارع في الأحداث واقتسام مناطق السيطرة في سوريا لإرغام تركيا التخلي عن سياستها تجاه سوريا والتي كانت مقتصرة على الدعم الإنساني لللاجئين ورعاية المعارضة السياسية على أراضيها والتحول إلى المشاركة العسكرية مع الجيش السوري الحر لأنه أصبح جلياً اقتراب الخطر الذي يخشونه من حدودهم، وبدأت هذه المشاركة بعبور الجيش التركي الحدود السورية إيذاناً منه بدأ عملية درع الفرات في 24 آب 2016م، وتم خلالها تحرير مينة جرابلس ووصلها بمدينة إعزاز بإعلان الجيش السوري الحر السيطرة عليها في 27 آب من نفس السنة، وباستمرار العملية تم الإعلان أيضاً عن السيطرة على مدينة الباب في 16 أيلول 2016م، وتم الإعلان عن انتهاء العملية في مارس 2017م بعد إخراج قوات تنظيم الدولة من ريف حلب بشكل كامل وانهاء حلم قوات سوريا الديمقراطية بوصل منطقة عين العرب بعفرين.

صور لم تنجلِ بعد
قد يخطر لنا هنا بعض التساؤلات والتي من مهمتها توضيح الهدف من عملية درع الفرات أو التدخل التركي تحديداً.
هل يمكن أن تكون حرباً بالوكالة استخدمت تركيا خلالها قوات الجيش السوري الحر لمنع قوات سوريا الديمقراطية من وصل منطقتي عين العرب وعفرين! أم أن الهدف الأساسي كان هو إبعاد قوات تنظيم الدولة عن الحدود التي عبر منها دخولاً لأنه يشكل خطرا، كونه مصنف كتنظيم إرهابي لدى الأمم المتحدة، وتكون تركيا هنا تحارب الإرهاب المتطرف.

وبالعملية الجديدة والتي أطلق عليها اسم "سيد الفرات" هل تقوم تركيا باصطدام مباشر مع القوات الكردية المتمركزة في عفرين، وتكون كمن نفخ في الرماد وتزيد من خصومة أكراد الداخل التركي لها، وتصبح في حالة حرب داخلية خارجية! أم أنها ستلجأ للدبلوماسية مرة أخرى بالضغط على روسيا لإجبار قوات سوريا الديمقراطية على مغادرة عفرين، ويصبح الشمال الغربي بيد تركيا، وأين موقع السوريين من هذا الخصام.

وعن السوريين الذين يقاتلون بجانب صفوف القوات التركية هل ما زالوا يؤمنون بالأهداف التي بدأوا مسيرتهم بها، وهل ما زال جلّ همهم هو قتال أعداء الشعب السوري، وكثيراً ما قد نتساءل إن كانوا قادرين على تمييز أصدقاء الشعب السوري عن أعدائه، ولو صح السؤال هل يملك السوريون بكافة الأطياف ثوريين كانوا أم سياسيين مدنيين وعسكريين التمييز بين حليفهم وخصيمهم، وما هي حدود الحليف وصلاحياته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.