شعار قسم مدونات

وطني موجوع يا أمي

Blogs-الروهينغا
كنت جالسة مع أمّي أحدثها عن هذا الشأن وذاك، الجوّ كانَ حنُونًا، نسائمُ الخَريفُ تُغَازلُ أروَاحنا، وأنا على تلكَ الحال، شردت فجأة لاحَت في ذهنِي صورٌ للدَّمار الذي يجتاحُ هذا العَالمْ، صورٌ من بورما، ميانمار، أقليّات الروهينغانا المساكين، جراحُ سوريَا، وتشتت العراقِ وتصدُّعه، آلامُ اليمَنِ وليبيَا، صرخات السجناءِ بمصرْ، آهَاتُ الأقصَى التِي تنخفضُ يأسًا بعد مرورِ هذهِ السنين، أوجاع مسلمِي أفريقيَا الوُسطَى ومجاعةٌ وطغيَان يسُودانِ ما جَاورها، هلعُ الفَارِّين وصرخَات الفُقراء والجائعِين وألمُ الخَائفِين من الظُلمِ والتعذِيب. هزَْات ارتجَافهم تهُزُّ جسَد الإنسَانيَّة التِي تكَادُ تنقَرض.
                       
جُنُونٌ هذا الذِي يكتَسحُ العالم يا أمّي، كفةٌ تؤيدّ الظلمَ وتدعمهُ وكفّةٌ تدعَمُ صوتَ المقَاومَات المبحُوح. انقسامَات ما بعدهَا انقساماتْ، هذه سنةٌ وتلكَ شيعَةٌ وهؤُلاء دُروز! هذهِ طالبَان وتلكَ داعشٌ ولا ندرِي ما قد يتشَكَّل لاحقًا حينَ تزدَادُ حالُ عقلِ هذَا الوطَنِ مرضًا ويستَفحِل فيهِ سرَطانُ الانفِصَالِ والانقسَام. كلْ يحسِب نفسهُ الأحق، الفرقةَ النّاجية، الشعبَ المختار! ولمْ يزرَع أحدٌ فيهم وردَة محبَّة ولم يهدِ أيٌ منهمْ غُصنًا من شجَرةِ الزيتُون، حتَّى الحمَامُ الأبيضُ يا أمّي عاطِلٌ عن العَمَلِ ولا أحَدَ يريدُ خدمَاته.
       
أتعلمِينَ أمِّي، أنَا لاَ أعتبرُ نفسِي جزَائِريّة فقطْ، لأنّني أنتَمِي لكُلِّ الأصولْ. أنسُبُ نفسِي للكُرَة الأرضيّة بأكمَلها، فإنْ جُرِحَ في الكَوكَبِ أيُّ بريءٍ ظُلمًا فألَمُ وجَعِه يصِلنِي ضعفَينِ يا أمِّي، ألَم جراحِه وألَمٌ قِلَّة الحيلَةِ لنخففَ عنهمُ الأوجَاع. فتَاةٌ أنَا في مدينَة صغِيرَة، تعيشُ في هدوءٍ ظَاهري، وفِي قلبِهَا همُّ الكُرةِ الأرضِيَّةِ النَّازفةُِ وهِي تعُجُّ بصُراخِ الضعَفاء، وبصراخِي أنا أيضًا يا أمَّاه، ولا يسْمعُه أحدٌ إلاَّ الله.
         
الرسَالة الكٌبرى التي نَعيشُ لأجلها، إنقَاذ البشَريَّة وقيَادتهَا نحو الفوز الكبِير وكلُّ فعلٍ يندرجُ تحتَ هذا الهدَف يُعتبَر حتمًا فعلِ عبَادَةٍ لإرضَاء الخالقْ

"اللهُ يَا أمِّي!" قلتُ هذَا ثمَّ سكت. استَرجَعتُ فكرتِي، نظَرتُ إليهَا ثمَّ قلت: الله يا أمّي يرى كلَّ شيءْ! يرى حسرَة المستضعَفين، وجورَ الظالمينْ، ويسمَعُ صرَاخ المُعذَّبين، وأنَينَ المودِّعينَ للحيَاةِ بعدَ أنْ قطَّعتهُم سكاكينُ السجَّانينْ وأبرحتْهم وجعًا سيَاطُ الضاربينْ، الله يسمعُ قهقهاتِ السَّلاطينِ وترهاتهِم الصاخبة وهُم سُكارى يشرَبونَ من خمرَةِ السُّلطة والدكتَاتوريةِ، وينهشُونَ من كراسِي المُلكِ المصنُوعةِ من عظامِ الأبريَاء حتَّى يسدُّوا جوعهُم المفترِسْ ويرضُوا نزوَات الغَطرسة والسَّادية المتفَاقمة. خمرَةٌ عُصِرت من دمَاء شعُوبهم، ولحْمٌ قٌطِّع من لُحُوم المستضعَفينْ. الله يرى يا أمِّي وهو لا يظلِم! الله يُمهِلُ ولاَ يُهمِلْ.

          
كلُّ نفسٍ ذائقَة الموتْ، ولكن ليستْ كُلُّ نفسٍ ذائقَةُ الحيَاة. حياةُ الجنَّة حيَاةً أبدِيَّةً وُعِدَ بهَا الصَّابرونْ والمُضحُّون والمُؤمِنونَ بالله حقًا والمحسنُون به الظَّنَّ حتى وإن اِنهَارت أمَامَهُم الدُنيَا، هؤلاءِ السَّاعونَ بأمَل الموقِنُون بعودَة الضيَاء، يجتهدونَ وهمْ ينظرُون إلى الأفِقِ متشوقينَ لرؤيَةِ الشروقْ. منهُم من يرَى أجملَ شروقٍ حينَ توافيهِ المنيَّة، يبكِي النَّاس علَى أجسَادٍ بينَما الأمواتُ في الحقِيقَة أحياءٌ عنْد ربِّهِم يُرزَقون. الشّهَداءٌ أحيَاء يا أمِّي وشعُوبنَا ضميرُهَا قد ماتَ إلاَّ قلةٌ ممن لازَالوا بصدقٍ حاملينَ اللِّواء رُغمَ سُخريةِ الجيرانِ والعائلة والأصدقاءْ. فكَّرتُ يا أمِّي، كيفَ السبيلٌ إلَى التغيير؟ كيفَ لقلَّة بحجمِ قطرَة أن تهُزَّ سيلاً من البائسينَ والنائِمينَ والتعسَاء؟ هَل يكفِي الدُّعَاء؟
     
إنَّها معركَةُ الوعي والعملْ! إنَّ التغييرَ لنْ يحصُل دونَ وعي. أنْ تعمَل الفئَة القليلَة التِّي تسعَى لبلُوغِ الشروقِ وشمسِ الحريَّة بجدٍ وإيمَان تامٍ جازِمٍ بانتِصَار الحَقْ وعودَة السَّلام. إنَ تغييرَ فكرةٍ خاطئةٍ واحدَة عندَ شخْصٍ واحد في اليومِ تُعدُّ خُطوَة نحوَ النَّصر! العمَلُ علَى استرجَاعِ منظُومةِ الأخلاقِ وزرعِ بذورِ الوِحدَة والتآخِي حتَّى يستيقَظ الضمِيرْ. نكُفَّ عن التصنِيف، عن السٍُخرية، عن التكَبُّر، عنِ المُحَاباة، عن اللاَّمُبالاة، عنِ الظُلم. لنتَعلَّمْ بدلَ ذلكَ أخلاقَ الإيثَار والعدلْ والإحسان والقنَاعة والالتزَام والعطَاء وعلى رأس هذهِ الأخلاقِ وغيرهَا وجبَ أن نحمِلَ خُلق الرَّحمة، فمِنَ الرحمَةِ ينبُعُ كل خيرْ.
          
يجب أن نكون نحن الشٌّعوبُ كلُنا جسدًا واحدًا، إذا اشتكَى منهُ عُضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى. هكَذا سنهزِمُ الطغيَان
يجب أن نكون نحن الشٌّعوبُ كلُنا جسدًا واحدًا، إذا اشتكَى منهُ عُضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى. هكَذا سنهزِمُ الطغيَان
 

وفي نفسِ الوقتِ نبنِي الفكرْ، نتنَورَ ونتعلَّم، لنُفرّقَ بينَ الحقِّ والباطِل فنُدركَ السبيلَ نحوَ الحُريِّة والسلامْ. بالتغييرِ في أخلاقنَا وفكرِنا ومعاملاتنَا سينظُرَ الجزائريُّ لأخِيهِ من أفريقيَا الوُسطـى كما ينظُرُ لأخيهِ من أمهِ وأبيه، ويرَ العراقيُّ والسوريُّ والفلسطينيُّ أن شأن مصرَ هو شأنهُم، ويُدرِكَ السعوديُّ والإماراتيُّ والقطريُّ أنَّ عدوَّهم هوَ من يُحرضٌ علَى الفرقةِ والبغضَاء، أن يهتمَّ المغربيُّ لحَال اليمنيْ ويخشَى المصريُّ على أخيهِ المينماري، ويشُدَّ التُّونسيُّ بيدِ أخيهِ الليبي. ويقف الأردنيُّ مع السوري والتركيُّ مع الإيراني، والبحرينيُّ مع الصومالي، والعربيُّ مع الأمازيغي والأمازيغيُّ يشدٌّ يد العربيِّ وينظُر إليهِ بثقة أنني هنَا معكْ.

         
يقف الإخوة كلهم وينضمّ إليهم كل إنسَانيٍّ مهما اختلف عرقه أو دينه أو لونه أو لغته، يقفون جميعًا عندَ حدودِ الأوطانِ ويمسحوا بأقدَامهم آثار تلكَ الحدودِ الوهميّةِ الكَاذبَة، وينظُر الجميعُ إلى وجع في اليابان على أنه وجع كل سكان الأرض، ووجع فلسطين على أنه وجع كل الإنسانية، ووجع الأبرياء المتضررين من الكوارث الطبيعية على أنَّه وجعُ كلِّ الكونْ، أن نكون نحن الشٌّعوبُ كلُنا جسدًا واحدًا، إذا اشتكَى منهُ عُضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى. هكَذا سنهزِمُ الطغيَان، سنقهَرُ فراعِينَ الأرضِ واحدًا تلوَ الآخرْ.
يجب أن ننبُذ كل مظاهرِ الطائفيَّة والتفرقَة، أن نقفَ ضد الإرهَاب، ألاَّ نطبِعَ للفسَادْ، أن نوقّر العلمَاء، وألاَّ نرضَى بالاستعبَاد. يجبٌ أن نحملَ همّ كل العالمْ ونعودَ لأصلِ وجُودنَا، الرسَالة الكٌبرى التي نَعيشُ لأجلها، إنقَاذ البشَريَّة وقيَادتهَا نحو الفوز الكبِير وكلُّ فعلٍ يندرجُ تحتَ هذا الهدَف يُعتبَر حتمًا فعلِ عبَادَةٍ لإرضَاء الخالقْ. هذَا ليسَ حُلُمًا، إنَّها قنَاعةٌ محفورةٌ راسخَة أنَّ الله إذَا وجَدَ فينَا الصلاحْ فلابُدّ للظُلمِ أنْ ينْكَسِر ولاَبدَّ لليلِ أن ينجَلِي ولابُدَّ للطُغيَانِ أنْ يندَثِرْ، فتُشرِقَ فينَا شمسُ الحيَاة ويُصبِحُ حتمًا علَى الحَقِّ أنْ ينتَصرْ، وحتْمًا علَى السِّلم أن ينْتَشرْ. وهُم يرونَهُ بعيدًا وأراهُ بإذنِ اللهِ قريبًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.