شعار قسم مدونات

"لا مشكلة.. الله من فعل بهم ذلك"

blogs - أطفال سوريا والبحث عن خبز
كنا في مجموعة دراسية في إحدى الفصول عبر الإنترنت، مع معلمة للغة الانجليزية، كنّا ثلاثة طلاب، اثنين ذكور وأنا الثالثة. المعلمة تطرح الأسئلة المتنوعة لجعل المحادثة فعالة بيننا، نتعلم من خلالها سياق التفكير وكيفية الرد على السؤال بالإنجليزية. وقد كان من ضمن الأسئلة: ما هو رقم المثالي لعدد الأطفال في الأسرة بالنسبة لك؟ 

– أجبت: واحد أو اثنين سيكون جيداً.
أما الطالبان الآخران، فأحدهما يقول ببساطة: ديننا ضد فكرة عدد محدد للأطفال في الأسرة المسلمة! والآخر يقول: عشرة، عشرين، ثلاثين.. لا يهم! فالإسلام يسمح بذلك! وسماحه لنا في تعدد الزوجات، يعتبر غاية وتشجيعا لنا في حصد أكبر عدد من الأبناء!
– وكيف يفترض بك أن ترعى وتطعم كل هؤلاء الأطفال؟! قلت ذلك له بلا وعي أو تفكير.
– يقول: الله هو الرزاق!
– المدراس والمستشفيات والطعام الجيد؟

يعيد جوابه وفي صوته حده هذه المرة: ألا تفهمين؟ الله هو الرزاق!
– المعلمة باستغراب: ما الأمر؟
– يرد عليها: ديننا لا يسمح لنا بتحديد النسل لأنه لا يجب أن نقلق ونفكر كالمشككين بشأن مستقبل أولادنا "تيتشر"! الله هو معطي المال والطعام، هذا إيمان المؤمنين الحقيقيين.

تمنيتُ لو أنني لم أدخل في نقاش عقيم، خاصة ونحن في حضرة معلمة غريبة عنا، تنصت لنا بفضول وتعجب رغم أنها لا تفهم شيئا بسبب نقاشنا العربي المحتدم

المعلمة أجنبية من ثقافة مختلفة تماماً عنا، وذلك الطالب ينقلُ لها فهمه الناقص من المُوروث الديني بكل تلك الثقة والعنترية الذكورية.
أقول للمعلمة وللآخرين أصحاب الرأي المخالف: الزمن تغير كثيراً عن زمن الأجداد البسيط، ومن الصعب للغاية أن تحصل على أطفال كُثر الآن، وأنت لا تبالي أو تقلق بشأن حياتهم ومستقبلهم! وربنا لا يفرضُ على أن تكون الأسرة كثيرة الأطفال، إذا كانت سوف تكون عالة، قليلة الدخل أو عاطلة عن العمل!

لم يعد يكفي أن توفر الطعام والمسكن لأسرتك، بل عليك التفكير بتعليمهم -الذي أصبح ضرورة ملحة- وكلفته الغالية، زيارات المشفى غير المجانية. تتحول المحادثة من الإنجليزية إلى العربية بصوت هجومي:
– ترى كلامك، يا بنت، حرام، أنت مو مسلمة؟
أرد عليه بالإنجليزية: هناك الملايين من الأطفال في الصومال يموتون من الجوع، هلا قلت لي لماذا لا يعطيهم الله الطعام بفرقعة إصبع؟! (الصومال مسلمة)
– هل تجحدينِ الله الآن؟
– بل أسألكُ، لماذا يموت كل هؤلاء بسبب الجوع طالما أن الله يستطيع إطعامهم ببساطة؟ 
– It is not problem! الله من فعل بهم ذلك!
هكذا أجابني وصدمني.

في تلك اللحظة تمنيتُ لو أنني لم أدخل في هذا النقاش العقيم، وخاصة نحن في حضرة معلمة كبيرة غريبة عنا، تنصت لنا بفضول وتعجب رغم أنها لا تفهم شيئا بسبب نقاشنا العربي المحتدم والإنجليزية الركيكة، تمنيتُ لو أنه فهم القصد من سؤالي ذلك، بأن الله يريد منا أن نخطط ونصلح ونعمل مع إيماننا برحمته وكرمه في المقابل، بدل أن نموت من الجوع؛ أو انتظار مساعدات العالم المتقدم وتُبرعات أصحاب المال الفائض، تمنيت لو أنه صمت قبل أن يعتبرُ موت كل هؤلاء الجوعى الضعفاء شيء بسيط، فالله هو الذي حكم عليهم بالجوع والموت لذا، It is not Problem، مكرراً إياها عدة مرات بصوت غير مبال.

undefined

انقطع الاتصال من جانبه، ليعود مجدداً ويستأذن المعلمة في الحديث معي بالعربية. تسمح بذلك.
– هديل، سؤال واحد وممكن تجاوبي عليه؟ أنتِ قُلتِ أنه لا يمكن يكون في الأسرة مائة طفل دون ما نخاف عشان رزقهم؟
"مائة طفل دفعة واحدة، يا إلهي!"
– جاوبني أنتِ قلتِ هذا ولا لا؟
– على نفس السياق.. أجل!
– هو الله الرزاق ولا أنتِ عشان تعترضي على عدد الأطفال عند المسلمين، أنت المسؤولة عنهم، يلاه جاوبني! (كان صوته يوحى لي كمن قد ربح الجائزة الكبرى لتوه).

معاناة فقر المال وفقر المساواة والعدل وفقر الاهتمام والحنان بسبب كثرة العيال والهموم، عن مأساة فظيعة تتكرر كل يوم في مجتمعنا بسبب: ليست مشكلة!

ينتهي وقته ويذهب، والآخر كذلك قبله، شعرت بالبرد يزحف في أنحاء جسدي، يداي ترتجفان رغماً عني، تحزنني قلة حيلتي في مثل تلك النقاشات والمواقف، أتعجب من الجسد الذي يخذلك بتلك الانفعالات وفقدان السيطرة، في حين تحتاجه قوياً صامداً يعبر عنك وعن شجاعتك جيداً! اعتذرت للمعلمة عما بدر منا نحن طُلابها من شبه الجزيرة العربية المُوقرة، لتسألني: ماذا قال وماذا قُلتِ له؟ أحاول أن أعيدُ عليها النقاش بلغتي الإنجليزية المكسرة ألف تكسير، وأفهمها وجهة الاختلاف بيننا في ذلك السؤال البسيط الذي طرحته علينا.

أخبرتها أن سبب حدتي مع ذلك الشاب -المُتلذذُ بخيال كثرة الزوجات والأبناء- أنني رأيتُ نسوةً يبعن آخر قطعة من حليّهن لأجل توفير المال لزيارة طبيب -الساكن في البلدة الأخرى وأجرة السيارة- لأجل أن يُعالج الابن المريض من شهور عدة، وأخرى لأجل أن تشتري علبة حليب "نيدو" لطفلتها الرضيعة التي لا تجد الحليب في ثدي أمها، لأن الأم لا تأكل سوى القليل من الطعام والكثير من التعب طوال اليوم، لذا نفد الحليب منها وكذلك صبرها!

وتلك التي تعمل في الحقول وترعى الأغنام تحت الشمس الحارقة، وتلك التي تقضي طول يومها تبحث عن الحطب في الشعاب لأنه لا يوجد مال لشراء إسطوانة غاز! وتلك التي تطرق البيوت بابًا باباً لأجل أن تحصل على بعض الملابس القديمة وبعض الطعام -لأبنائها وأحفادها العشرين- من أهل المقدرة، مُتنازلةً عن كرامتها وأنوثتها. وعن رجل شنق نفسه بسبب عذاب الغُربة وفقر اليد وكثرة العيال.

 معاناة فقر المال وفقر المساواة والعدل وفقر الاهتمام والحنان بسبب كثرة العيال والهموم، عن مأساة فظيعة تتكرر كل يوم في مجتمعنا بسبب: It is not problem ، فتلك مشيئة الله لنا أو لهم! لا مشكلة على الإطلاق.

تسألني المعلمة في نهاية المحادثة: هل حكومتكم تصرف لكم حوافز مالية كل شهر؟ لأن الطالب الذي تحاورتِ معه -هو الآخر- يقول إن حكومته تفعل ذلك؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.