شعار قسم مدونات

ارتحل أولا إلى بر السكينة!

Blogs- stand
في دنيانا، حيث لا شيء مثالي، وربما جمال الأشياء أو قبحها يستتبعه كثيراً "لكن"، كما يُرى كل شيء من زوايا تتباين وعدسات تتفاوت قياساتها ومدى شفافيتها، لست وحدك من يبحث عما يخفف عن كاهله عناء التصالح مع دنياه.
     
لست وحدك أيضا من يمضي في رحلة بحث مستمرة عن غاية وجوده بغيةَ الارتواء والسكينة، لتهدأ عواصف روحك رويداً رويداً، فلعل الرغبة الملحة لإيجاد شيء ما تخفيه عن ناظريك ولو كان أمامك أتعرف! في وقت ما ربما ستدرك أن إيجاد الغاية بشكل نهائي ليس النهاية أو البداية حتى، لكن واصل! فمن أعظم الآلاء والمنن أن تبقى باحثاً متعطشاً للحق، على الأقل لست جثة هامدة لكنها تتنفس كالكثيرين، لست ميتاً على قيد الحياة!

في رحلة بحثك المستمرة تلك، ستكافح لتكون إنساناً، ذلك الإنسان الذي استحق سجود الملائكة، سيصبح ثأرك الأول مع الأسئلة، لأنك في لحظة حاسمة من حياتك ستدرك أنك بالعلم تحيا وبالعلم تبقى أيضاً، و"كم منا من لم يغادر الحياة بل غادرته هي"، لكن ربما تقابلك القاعدة المأثورة عن أحد السلف: "تعلَّموا العلم، وتعلَّموا للعلم السَّكِينَة والحلم".
        
ربما ستضع أشياء كثيرة في خانات متأخرة وتختار أن تجد السكينة أولاً، برغم كل صولاتك وجولاتك، السكينة قاهرة المحن وسلوى المكلومين، بل ربما السلاح الأقوى في أحلك الظروف، السكينة رديفة الرضا الرباني "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ"، ورُقي القلوب، "فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" الفتح: 18، عندما تجد السكينة لن تسعى لإرضاء الجميع، ليس لأنك كللت بل لأن النتيجة في النهاية واحدة، ربما ستكفر بكثير من المعايير التي جرى العرف على تقديسها، أو برأي تشبثت به كما لو كان قرآناً، أو وهم كبر مع سنيِّ عمرك البطيء السريع، ربما ستقف هادئاً باسماً أمام متعاكسات الدنيا كما مترادفاتها.
          

لن تذهب نفسك حسرات لفقد شيء أو حتى أشياء، ستطمئن فكل شيء هنا مصيره الانتهاء، لا أحد سيسمع ضجيج تحطم قلبك سوى الله
لن تذهب نفسك حسرات لفقد شيء أو حتى أشياء، ستطمئن فكل شيء هنا مصيره الانتهاء، لا أحد سيسمع ضجيج تحطم قلبك سوى الله
 

كأن تسعد مثلاً بتسلل الشيب إلى رأسك في عمر الشباب، أو أنْ تجد أنّ العيوب تعتري أكثر ذلك الشيء الذي حَسِبته يوما ما كاملاً لا غبار عليه، أو تلحظ أن أحدهم بانتقاده آخر قد أساء لنفسه أكثر، ستفكر قبل أن تجامل أو تمتدح شخصا لن ينفعه مديحك مادياً أو معنوياً، فضلاً عمن لن يقدر ذلك منك على أي حال، لن تنبهر كثيراً بشيء ما فكل شيءٍ هنا لابد ناقص، و"لن تتواضع لمن لا يعرف قدرك"، فمن لا يهتم لن يقدر الاهتمام.

     
ربما ستبكي أكثر -من أي شيء- على أنفاسك "المعدودة عليك" التي أهدرت سدى بين أشتات اللامبالاة، لن تخف من شيء أكثر من نفسك الأمارة بالسوء، لن تشكو سوى من ضعفك أمامها، أو وقوعك في شرك وساوس الشياطين أو عجزك عن تقويم حالك مع الله، لن تذهب نفسك حسرات لفقد شيء أو حتى أشياء، فدار السلام و"بلاد الأفراح" لا تباع باستسلامٍ للقنوط، ستطمئن فكل شيء هنا مصيره الانتهاء، لا أحد سيسمع ضجيج تحطم قلبك سوى الله، فلا تنس أن الأسهل دائماً هو أن تستسلم. 
          
لن تتمنى ما لدى أحد من متاع لأن الكل في دنيانا يناله نصيب من التعب، قد يختلف في شكله لكنه يبقى (كَبَد)، ستشفق حقاً على ذلك الذي ينظر لغيره من علٍ، مغتراً بمعيشة يحسبها كاملة، مكانة يبدو للجميع أنها مرموقة، مال يراه الناس وفيراً، لكنه مسكين من حيث لا يدري أو يدري، سِيّان ستترفع عن إساءة الظن، وستلتمس لغيرك الأعذار لأنه لا يفترض بك أن تكون ملاكاً، وكذلك هم، فـ "من لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه"، ستتعلم أيضا كيف تروض نزعات النزق الإنساني، كيف تتصالح مع أخطائك وأخطاء الآخرين.
       
لأجل ما سبق وغيره، هل لك أن تلون قلبك بألوان نقية، أن تمتع عقلك بثراء المعاني، وأن تتذوق تسمع وترى بقلبك، لم يعلمونا في المدارس للأسف أن "الحضارة هي ما يراه القلب قبل العينين، الحضارة في قلبك أولاً"، ليكن بر السكينة وجهتك الأولى! ولا تنس أن لكل عظيم في حياته جندي مجهول، إنسان أو فكرة وربما عقله الباطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.