شعار قسم مدونات

أجِّل الدرس إلى أن يستوي الضِرس

blogs - تعليم أطفال طفلة مدرسة

في مجمل نقدها التحليلي لأنماط التعليم المبكّر أو المُستَعجَل لدى الأطفال تصف الدكتورة جين هيلي في كتابها "دماغ الطفل النامي" ديناميكيات التعلّم خلال الطفولة المبكِّرة فتقول:

 

"حتّى الأطفال الرّضع بالإمكان تدريبهم على ربط مؤثرين يتم تقديمهما لهم بشكل متكرّر، ولكن هذا النوع من التعلّم ليس ذا معنىً أو ذا قيمة تُرجى للطفل بل هو قد يوظِّف أجزاءً غير كفؤة من المخّ بدل تلك المُتوافقةِ مع طبيعة هذه المهامّ. في الواقع، إنّ التعليم القسري -بعكس التعليم ذاتّي التوجيه- من أي نوع قد يؤدي إلى استخدام النظم "الدنيا" في الدماغ للوظائف العليا لأن المناطق "العليا" لا تكون قد تطوّرت ونضجت بعد. إنّ "عادة" استخدام مناطق الدماغ السفلى لإتمام المهامّ الفكرية العليا (كالقراءة مثلا) والتعرّض للتلقين عوضا عن بناء أنماطٍ من المعاني، كلّ ذلك يتسبّبُ في إشكالاتٍ كبيرةٍ فيما بعد، تصبح القراءة مهارةً دنيا، وهناك خطرٌ أن تبقى كذلك، أن تبقى عند ذات المستوى الذي اكتسبت ومورست فيه"

 

مع تصاعد وتيرة تحصيل المعارف والعلوم وتسارع التقدّم التقني اليوم بات من المتوقع الذي لا جدال معه أن يُستَدرج الآباء والأمهات كتحصيل حاصل ودون الكثير من النقاش إلى ميدان سباق التعليم المبكِّر. وإلى هذا المبتغى بنيت أسواقٌ ومؤسسات، أسواقٌ تزخر بما عَجُبَ وغَرُب من البِدَع التربويّة بدءا ببرامج "العباقرة الصغار" التي تعد بأن تجعل من ابنك داهيةً معجزة، وعالم التطبيقات "التعليمية" على الألواح والشاشات سالبات الذكاء والطفولة معا. ولا نغفل عن المقاطع محبّبة الرواج للأطفال الخوارق الذين يحفظون مجموع عواصم العالم وأطقما أخرى من المعلومات "المالئة".

 

 أميّة الأطفال أميّة عارفة وليست أميّة تجهل، هي لا تأبه بالتفاصيل ولكنها تسألُ عن المغزى
 أميّة الأطفال أميّة عارفة وليست أميّة تجهل، هي لا تأبه بالتفاصيل ولكنها تسألُ عن المغزى
 

 ثمّ ما يروّج له بالألعاب "التعليميّة"، التي تزعم بأنّها تحقّق حلم الوالدين حينما تخدع الأطفال خداعا محمودا فتناولهم محتوىً من الفيتامينات الأكاديمية المغذية في شكل حلوى جذابة ومسليّة. زعم هذه الاستراتيجيات الجديدة في سوق الألعاب يستند إلى منطقٍ في مضمونه يستعرُّ من اللعب كفعلٍ عبثيٍّ مُعيب أو على أقل تقديرٍ تافه ومُبدِّدٍ لوقت الطفولة الثمين. وتستوقفني هنا عبارة إحدى المعلمات في الروضة التي كان يرتادها ابني حينما علّقت قائلةً في اليوم الثاني لبدء الدوام "إنّ ابنك يأتي هنا وهو يظن أنّه آتٍ ليلعب!" يا للعار ابن الأربع أعوام يأتي للروضة ليلعب!  هذا هو المزاج الذي يرشح في تفكير الكثير ممن ينخرطون بالعمل في فضاء الطفولة المبكّرة اليوم للأسف، بأنّ اللعب في أصله خطيئة وبأنّنا كمربيّن يجب أن نسحب هذه القابلية الخاطئة ونقلِّمُها أو نقصُّ أطرافها فتدجّن ولا تطير مجدّدا.

 

هناك ميلٌ كبير لتعييب اللّعب كنشاط إنساني فاعل، فهو يُرى من منظور أنّه نشاطٌ سلبي غير بنّاء، لا يجني النتائج الملموسة، فنحن في عالمٍ لا يتعامل إلاّ بالعواقب والنتائج، نحن نحبُّ أن نجني الثمر فور الغرس، فنسعى إلى تقنين اللّعب وتوجيهه نحو ما نراه في حكمنا ذات قيمة. وقلّما يُنظَرُ للطفل كرقعة نصيّة تقرأ ويستشف ما فيها من إلهام وإيحاءات، الرؤية الدارجة هي أن يُراد لهم بأن "يسمعوا الكلمة"، أن يسمعوا الكبار، فهم بطبيعة منطق الكبار ليس لديهم ما يعلّمونا إياه. نحن نريدهم أن يصبحوا كبارا بأقصر وأسهل السُبُل، ولا ضير إن كان السبيل الوحيد لهذا الهدف هو استخدام الهرمونات المسرعّة المكبّرة معهم، فشعبية الصبر في تناقص والأناة أقصر من يتسّع لها العمر.

 

والسؤال، إذا لم يتسنّ للأطفال بأن يرتعوا بلا رقيبٍ ولا حسيب ويلعبوا حقّ اللعب في فجر وجودهم الإنساني فمتّى يلعبون إذا؟ متّى سنعي بأن اللعب غريزة أودعها الله في الطفل الصغير ليتعلّم حدوده ويدرك القدرة على التحكّم بذاته والمحافظة على تركيزه؟ وما هو الأساس المعرفي الذي يقوم عليه تقرير السنّ الذي به يبتدئ الطفل تلّقي التعليم الأكاديمي الرسمي؟

 

الطفل في فترة الطفولة المبكّرة (ما قبل السادسة أو السابعة) يتعلّم من طريق اللعب وأنّ أي إقحام للتعليم الإدراكي المباشر هو انتهاكٌ ومقاطعةٌ لمجرى النمو الطبيعي للطفل

في النظام البريطاني (الذي تبني عليه وتستعير منه الكثير من المناهج العربيّة) فإنّ تقرير سن دخول المدرسة لدى بلوغ الرابعة قرارٌ أثريّ وتذكاري يرجع إلى أيام الثورة الصناعية، حين كانت المصانع بحاجةٍ للعمالة بخيسة الثمن التي كانت تحصل عليها بتوظيف النساء الأمهات. فقضى الإجراء بأن يتم "تحرير" الأمهات من أطفالهن ومن مهمة تربيتهم وجرى "توريد" الأطفال للمؤسسة التعليمية العمومية ليتسنّى للأمهات مزاولة وظائفهن في تلك المصانع. مرّت الثورة وأصبحت في خبر أمسى وبقي هذا القانون كشاهد تاريخي على استعباد النساء والزهد بالأطفال.

 

ولا أحد يعلم ولا يُسائل هذا الثابت المقدّس وكفى. يعتقد الكثيرون أن طرح هكذا أسئلة لا يتسبب إلا بوابل من المتاعب المتراكبة والمبنية على أساسٍ هزيل، آيلٍ للانهيار وغير قابلٍ للتعديل فيلتفتون للناحية الأخرى ويمضون آملين بإحداث النهضة في مكانٍ آخر. هو الخيار بين مخاطبة جذر المشكلة أو ملاحقة جملة من العوارض المزمنة بعدد لا يحصى من الضمادات.

 

ولكن لماذا لا يُنصَح بالتعليم الأكاديمي المباشر في فترة الطفولة المبكّرة وما أساس هذا المدعي؟ تكاد الطفولة المبكّرة أن تكون أشبه بحالةٍ طافيةٍ من الحُلُم المتأرجح بين الأميّة البريئة التي تصحب الأطفال من الملكوت اللطيف المرهف وبين يقظة الارتطام الصادم بعالم حواسّ الأديم. أميّة الأطفال أميّة عارفة وليست أميّة تجهل، هي لا تأبه بالتفاصيل ولكنها تسألُ عن المغزى.

 

فعندما يسألك طفلٌ في ربيعه الرابع عن سبب خضرة أوراق الشجر هو لا يبحث عن شروحاتٍ تقنيّة في ظاهرة التمثيل الضوئي، هو يجري وراء العبرة، قد يرويه جوابٌ من مثل "لأنّه لون الشجر المفضّل في هذا الوقت، وهي تحب ارتدائه" أو قد تكفيه وتزيد نظرةٌ منك تقرّ بالدهشة وتعترف بالتساؤل.

 

اللّعب ليس عبثا أجوفا يحرق الوقت، اللّعب هو شغل الطفل الحقيقي بشرط أن يكون لعبا خامّا حرّا، لا تحدّه أجندات ولا نواتج متوقعة ولا تتخلّله إرشادات ولا مداخلات مستمرّة من قبل الكبار
اللّعب ليس عبثا أجوفا يحرق الوقت، اللّعب هو شغل الطفل الحقيقي بشرط أن يكون لعبا خامّا حرّا، لا تحدّه أجندات ولا نواتج متوقعة ولا تتخلّله إرشادات ولا مداخلات مستمرّة من قبل الكبار
 

لقد تنبّه الرواد في مجال التنشئة التكاملية في الغرب من أمثال رودلف ستينير مؤسس مدرسة الوالدورف، وماريا مونتيسوري وعالم النفس الشهير بياجيه إلى حقيقة بسيطة وحرجة في ذات الآن مفادها أن الطفل في فترة الطفولة المبكّرة (ما قبل السادسة أو السابعة) يتعلّم من طريق اللعب وأنّ أي إقحام للتعليم الإدراكي المباشر هو انتهاكٌ ومقاطعةٌ لمجرى النمو الطبيعي للطفل. قياس استعداد الطفل للإدراك المجرّد هذا لا يتبع لجداول مقرّرة من الحكومات والجهات الرسمية بل يستدلّ عليه من الطفل ذاته.

 

الطفل هو المعيار وهو المنهاج. فبالإضافة إلى الفوارق الواضحة في السلوك والإدراك فإنّ من أحد الإشارات العضويّة المشاهدة لتخطّي الطفل عتبة الطفولة المبكّرة الحالمة ودخوله إلى النطاق التالي من الوعي هو بداية تبدّل الأسنان اللّبنيّة وبزوغ الأسنان الدائمة.

 

اللّعب ليس عبثا أجوفا يحرق الوقت، اللّعب هو شغل الطفل الحقيقي بشرط أن يكون لعبا خامّا حرّا، لا تحدّه أجندات ولا نواتج متوقعة ولا تتخلّله إرشادات ولا مداخلات مستمرّة من قبل الكبار. بل يقتصر دور المربّي أو المعلِّم فيه على دور المشرف المُيسِّر للفضاء الآمن المُلهِم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.