شعار قسم مدونات

المصالحة الفلسطينية.. مِن أين؟ وإلى أين؟

blogs المصالحة الفلسطينية
لعلّ الشعب الفلسطينيَّ مُتعطشٌ منذ زمن للمصالحة، ولكن لسقوطها المتكرر الشعب بات متفائلا بحذر هذه المرة، وعلى الرغم مِن عدم إتمامها بصورة نهائية وغياب بنودها عن وسائل الإعلام، إلى أنها ليست ذاك الحفل الجميل الذي نال إعجاب الجميع، لأنها حَدث كان لا بُدَ منهُ في ظل العديد من الظروف والمتغيرات، ليس معارضةً منّي، ولا تشاؤمًا من أفقٍ يغشّيه الضّباب، لكنّ الأمر متعلّقٌ بإيماني بأنّ هذا الحدث المنتظر لا بدّ له من الانطلاق متجاوزًا ضيقَ الصّدور قبل الجسور، محطّمًا أغلال ضعفنا وخنوعنا، معلناً عن وَحدة طرفين جمعهما حبُّ الوطن وأبوْا عنه ابتعاداً.

ولكنّ ما حدث ليس ذلك تماماً؛ فليس الحبّ ما جمعنا، إنّ هذه المصالحة أشبه بزواج تقليديّ، ما يُهمّ فيه إتمام المراسيم، واستكمال الأعراف البالية التي جرّتنا خلفها مذ رضينا بالانقسام، والسؤال الذي ما فتئ يراودني دون كلل؛ ما الذي أوصلنا إلى هذه المصالحة؟ وهل ستتم هذه المرة؟ التوقيت؟ العقبة؟

"خرجت حماس بوثيقةٍ هي أكثر مرونةً لتتكيف مع الواقع الإقليمي والعالمي بصورة أفضل، تواجدت حماس على قائمة الإرهاب كأحد الأسباب المسببة للأزمة الخليجية، في حال كانت حماس مقصداً رئيسياً لهذه الأزمة وكانت قطر مضطرة للتخلي عنها تكون بذلك وقعت بين فكي كماشة ناهيك عن تربص ليبرمان لشن حرب عليها، ستكون حماس لأول مرة تواجه أزمةً حادة من هذا النوع؛ لأن تلك الأزمة على الصعيدين الداخلي والخارجي، فالداخل يحوي غضباً شعبياً تزدادُ وتيرتهُ يوماً بعد يوم، وعلى الصعيد الخارجي حماس إن خرجت من الدوحة ستفقد الحاضنة الرئيسية لها.

مِن المحتمل أن يكون السنوار هو مجرد وجه مستخدم لمرحلة خضوعها في فترة الضعف، وقد يظهر لنا قيادي مثل الزهار لإعادة حماس إلى القمة، أو يبرز قيادي آخر يتقمص هذا الدور
مِن المحتمل أن يكون السنوار هو مجرد وجه مستخدم لمرحلة خضوعها في فترة الضعف، وقد يظهر لنا قيادي مثل الزهار لإعادة حماس إلى القمة، أو يبرز قيادي آخر يتقمص هذا الدور
 

ومن الممكن أن تكون طهران هي بديل للدوحة لكن ذلك سيكبدها الكثير من الخسائر، وسيقود ذلك حماس للاتجاه نحو المصالحة كأفضل خيارٍ للخروج من هذه الأزمة، وبكل تأكيد ستلقى حماس إن سارت في ذلك الاتجاه مفترق طرق ما بين الجانب السياسي والعسكري. سياسي ليس بالقليل مثل محمد دحلان من المؤكد أن يكون متربصاً لمثل هذه الأوضاع للعودة إلى الساحة الفلسطينية بصورةٍ أقوى بعد أن تم إقصاؤه، فمن الممكن أن يقدم لحماس يدَّ العون، لكن هل سيسمح له عباس وحماس بذلك إن أقصيت حماس من قطر؟ سنرى ذلك فيما بعد"

قبل أربعةِ أشهر كُنتُ متوقعاً للوصول إلى نقطةٍ يتنافس فيها رئيس حركة فتح محمود عباس والقيادي المفصول من الحركة محمد دحلان على قِطاع غزة ووضحتُ ذلك في مقالي الأخير الموسوم بـِ "سِياسيّ المال وأزمةُ الخليج" والنص أعلاه يفسر ذلك، فقد كنت أرجّح كفّة عباس رغم ثقل الكفّة الأخرى؛ لأن دحلان من المعروف بأنه قيادي غير مرضي عنه وغير مقبول خاصة لدى أنصار حماس، وعندما قدّم اقتراحه مع بداية المحادثات التي كانت برعاية مصرية جعل السخط وعدم الرضى قاراً مترسباً في كنه حماس، كما أن رئيس حركة فتح لا يمكن أن يسمح له بالعودة إلى الساحة الفلسطينية بهذه السهولة، وبالتالي فإنّ الخروج من هذه الأزمة الحادة بدرع المصالحة خيرٌ بكثيرٍ من نزول ساحة قتال بلا أسلحة، أي الاتفاق مع نظير عباس.

وإذا أمعنا النظر في أحداث الأشهر الأربعة الماضية، نجدها على هذا النّحو: الأزمة الخليجيّة التي جاءت بعد زيارة ترمب إلى الشرق الأوسط، فميثاق حماس، فطائفة من التغيرات الكبرى التي طرأت على قادتها، فالمحادثات مع دحلان، وأخيرًا المصالحة.

فلنسلّط الضوء على منطقة الوسط في هذه النقاط، ميثاق حماس، وتغير قادتها، هاتيْن النقطتيْن افتعلتهما حماس لتظهر ديمقراطيّتها، فقد جاءت الوثيقة لتعلن قبول حماس لوسائل المقاومة الأخرى مع إبقاء السلاح على رأسها، وهذا يعني قبولها لمنهج فتح في المفاوضات، وبما أنّ ذلك يدعوها إلى التّخلي عن التّعنت والعصبيّة، كان طبيعيًّا أن تظهر مرونتها في تصنيع أنموذج قياديّ يتناسب مع الوثيقة الجديدة.

الأغلبيّة العظمى ترى بأن عقدة المصالحة الحقيقية هي سلاح حماس الذي يُعدُّ السّبب الرئيس لشعبيّتها الواسعة، كما يخشون أن تصبح الحالة مماثلة لحزب الله في لبنان
الأغلبيّة العظمى ترى بأن عقدة المصالحة الحقيقية هي سلاح حماس الذي يُعدُّ السّبب الرئيس لشعبيّتها الواسعة، كما يخشون أن تصبح الحالة مماثلة لحزب الله في لبنان
 

مِن المحتمل أن يكون السنوار هو مجرد وجه مستخدم لمرحلة خضوعها في فترة الضعف، وقد يظهر لنا قيادي مثل الزهار لإعادة حماس إلى القمة، أو يبرز قيادي آخر يتقمص هذا الدور، ولكنني لا أرى ذلك واقعيًّا رغم إمكانيّة حدوثه، وأنا أرى ذلك مؤشراً لحدوث انشقاقٍ مستقبليّ لتيّاريْها السياسيّ والعسكريّ.

إتمام المصالحة وحصولها سابقاً كانت تفتتقر لاتفاق الطرفين على العديد من النقاط منها الأجهزة الأمنية والمعابر وعدم وجود برنامج وطني موحد للفصائل الفلسطينية، هذه النقاط وغيرها كثير كانت سبباً في إسقاط المبادرات الساعية لإتمامها مُسبقاً، وهذه النقاط السالف ذكرها وغيرها كثير يراها البعض عقدة المصالحة بصورةٍ أولى وهي فعلا سبب فشلها في كل مرة، ولكن هذه المبادرة تختلف كلياً، أيضاً عدم طرح بنود الاتفاق أثار الشك حول ذلك مجدداً، وعلى الرغم من هذا التكتم الإعلامي على بنود المصالحة إلا أن ثمة عدة أسباب توضح بأن هذه المرة ليست كسابقاتها أولها الأزمة الخليجية التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وجعلت حماس تواجه أزمة خارجية مُزامَنةً مع الأزمة الداخلية التي تعاني منها ثانيها الوثيقة المرنة التي خرجت بها حماس للتأقلم أكثر مع المتغيرات، وثالثها ما تلى الوثيقة من تغير داخليّ لقيادة حماس، ورابعها فشل الاتفاق مع دحلان لما لقيه من منافسة النظير الفتحاويّ عباس، ناهيك عن السخط الذي لاقته حماس جرّاء ذلك، وخامسها التنازلات الحمساوية غير المعهودة، وسادسها خروج النبرة الإعلامية الحمساوية عن بوتقة الاتفاق إلى دائرة قطع الأرزاق.

الأغلبيّة العظمى ترى بأن عقدة المصالحة الحقيقية هي سلاح حماس الذي يُعدُّ السّبب الرئيس لشعبيّتها الواسعة، كما يخشون أن تصبح الحالة مماثلة لحزب الله في لبنان، سلاح حماس يلقى اليوم تحدياً كبيراً في هذه المرحلة، حماس نفسُها تعلم بأنها إن فقدت السلاح ستفقد نفسها، ومن الممكن أن تتم المصالحة ويبقى السلاح بيدها، لكنه بكل تأكيد لن يكون مُواكبًا  لتطور الأسلحة، وستلاقي كثيراً مِن التحدّيات لزيادته إن عزمتْ على زيادته أو تطويره، وبمرور الزمن ستكون المعادلة مع العدو الصهيوني السيف مقابل الرشاش، ونحن على معرفة تامة بأن كل سلاح له وقتٌ معين، وهذا المؤشر الثاني على احتمال حدوث انشقاق بين التيار السياسي والعسكري لحماس.

واشنطن أعدّت وجبة سياسية ساخنة لتطفئ هلع طفلتها
واشنطن أعدّت وجبة سياسية ساخنة لتطفئ هلع طفلتها "إسرائيل" بدايةً من الأزمة الخليجية وصولاً إلى المصالحة.

وقد جاءت المصالحة في في ظل صراع مزدوج (المال والحكم) الذي أساسه أوسلو (النكبة الكبرى)، أمّا الأول فسببه النظام الاقتصادي الحر، وأمّا الثاني فسببه النظام الديمقراطي، وأي مصالحة في ظل هذا الصراع المزدوج مهددة مستقبلًا بالزوال، وقد تولد انقسامات من النوع نفسه أو من نوع آخر، فالنظام الديمقراطيّ أودى بحركات المقاومة إلى التفرّق والتّشرذم، وحولها إلى أحزاب تقريباً بفعل الأدوات الديمقراطية التي ولدت الصراع بينها على الحكم عن طريق الانتخابات.

واليوم نشهد بأعيننا مراحل تحول حماس من حركة تحرر إلى حزب مستقبلاً كما حصل مع نظيرَتُها، والنظام الاقتصادي الحر جعل من الشعب عبدًا للمال، وخلق أقلية غنية وأغلبية فقيرة، وكلاهما حوّلت قبلتها إلى المصالح الماديّة وأدارت ظهرها للقضية الفلسطينية، وبذلك تكون القيادة مشغولة في الوصول إلى سدة الحكم، في حين انشغال الشعب في البحث عن المال.

ونحن الآن بصدد معرفة رأي حماس بقيام دولة فلسطينية على حدود 67، حيث تَتّبع حماس سياسة الأهداف المرحلية وقد ترى المصالحة كذلك، ولكن في حال كانت حماس تريدها مصالحة مرحلية سيكون الرجوع عن المصالحة بعد فترة زمنية أمرًا غير ممكن؛ لأن المنافس لها سيكون متوقعًا لهذا الأمر، وسيكون قد أحكَمَ قبضته جيدا على غزة،والسيسي "ناله من الحب جانب" هذ المرة كما يقولون، فقد أعاده هذا الحدث إلى حتضان أهمّ الملفات السياسية في المنطقة.

وفي الختام بوسعي أن أقول: إنّ المصالحة مطلب شعبي مراد بقوه منذ الانقسام، ولكن حدوثها في هذا الوقت لم يكن لهذ السبب، إنما لمستجدّات حصلت مؤخّرًا، وربما كانت طُعمًا قدّمه الاحتلال للنّيْل من القوّة العسكريّة التي تملكها حماس، وإذا نظرنا إلى هذه السلسلة المحكمة من الأحداث نكتشف أن واشنطن أعدّت هذه الوجبة السياسية الساخنة لتطفئ هلع طفلتها "إسرائيل" بدايةً من الأزمة الخليجية وصولاً إلى المصالحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.