شعار قسم مدونات

المسيحيون في أرض المسيح

BLOGS المسيحيون في القدس

جاءت حفيدتي من مدرستها، ووقفت بإزائي تعطلني عن كتابة مقالي. وعلى زيها المدرسي اسم المدرسة (الإنجيلية الأسقفية العربية). أقول لها: هيا اذهبي لتناول الغداء. لكنها مصرة على أن تعلمني شيئاً. تريد أن أقرأ لها سورة "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" التي حفظتها في المدرسة مؤخراً. قرأتها لها فرضيت عن سلامة حفظي، وذهبت لغدائها، وقعدت أتأمل، وانحرفت عن فكرة المقال الأساسية كل الانحراف. نعم، في تلك المدرسة المسيحية لا يعتبرون أنفسهم "كافرين"، ولا أنا أعتبرهم كذلك. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، وهو بحاجة إلى مقال.

 

تأملت في اسم المدرسة: (الإنجيلية). أنا مولود في المستشفى (الإنجيلي) بمدينتي نابلس بفلسطين. والقابلة التي سحبتني من رأسي هي سعدى نقولا، واسمها على شهادة ميلادي.

 

ومضيت أتأمل: قبل المدرسة أرسلني أهلي إلى روضة تابعة لجمعية مار يوسف التبشيرية. وكان طبيب الأطفال للعائلة طقطق المسيحي، وطبيب الأسنان نويصر المسيحي. هذا ونحن عائلة مسلمة فيها صلاة وصوم، ونقرأ يا أيها الكافرون. ثم دخلت المدرسة. وكان في الصف الأول تلميذ اسمه جورج. وكان يخرج من الصف في درس الدين. وقيل لنا إنه مسيحي. لكن الانتماء في ذلك الزمن الغابر كان انتماء عربياً. كلنا عرب، والسلام.

 

كان انتماؤنا في فلسطين أيام طفولتي وشبابي الباكر عربياً. وجاء الاحتلال الإسرائيلي فصار انتماؤنا أضيق.. صار فلسطينياً في الأساس
كان انتماؤنا في فلسطين أيام طفولتي وشبابي الباكر عربياً. وجاء الاحتلال الإسرائيلي فصار انتماؤنا أضيق.. صار فلسطينياً في الأساس
 

كان جورج يتكلم بلهجة قريته القريبة من المدينة، وأما التلميذ الآخر "حنا"، في المدرسة الإعدادية، فكان يتكلم بلهجة مدينتنا العتيقة. المسيحيون في نابلس كانوا قلة، وكان في نابلس وما يزال طائفة سامرية تقدس أسفار موسى الخمسة. وكان منهم معلم الأحياء في مدرستي الثانوية الأستاذ فؤاد، وكان كاهنهم الأكبر (عبد المعين) يشتري الخضر من السوق ونراه بين الناس بجبته وعمامته الضخمة. فأما اللحم فالسامريون يذبحون بطريقتهم. وقد يدخل السبت على عائلة سامرية والنور في البيت مطفأ، فلا يسمح لهم دينهم بلمس زر الكهرباء (أو بأداء أي عمل)، فينادون ابن الجيران المسلم أو المسيحي لكي يضغط على زر الكهرباء. كنا كلنا عرباً. هذا انتماؤنا. وعندي على الانتماء قصة.

 

قبل نحو أربعين سنة اعتقل الجنود الإسرائيليون شاباً كان يرشقهم بالحجارة، وزجوه في السجن. ورحب به السجناء كالعادة.. وجاء وقت شرب الشاي. قال له أحدهم: مع من تشرب شايك؟ الشعبية أم فتح؟ تحير الشاب وقال: أنا ليس لي فكر سياسي مؤيد للشعبية ولا لفتح.. أنا. ولم يكمل عبارته، فانهالت عليه عبارات السجناء من كل صوب: هيا، بلا فلسفة وبلا حذلقة، ومن ذا سألك عن فكرك السياسي؟.. بسرعة قل لنا: مع من ستشرب الشاي؟

 

واختار بعدما احتار، وشرب الشاي بعد أن استخار. الانتماء هو أن تنضم إلى قبيلة أو عائلة أو شعب أو دين. الانتماء هو أن تكون ضمن مجموعة وكفى.

 

المسيحيون في فلسطين، ومنذ المسيح، أبناء الأرض: منهم الفلاح والطبيب، ومنهم الفقير والغني. ولم تؤثر في انتمائهم لأرضهم الجمعيات التبشيرية، لكنهم بالتأكيد شعروا مؤخراً بأنهم أخرجوا من دائرة الانتماء الضيق

كان انتماؤنا في فلسطين أيام طفولتي وشبابي الباكر عربياً. وجاء الاحتلال الإسرائيلي فصار انتماؤنا أضيق.. صار فلسطينياً في الأساس. ودخلت جامعة بيرزيت التي أنشأتها أسرة مسيحية. وكان نحو ثلث الطلبة من المسيحيين. وكانت بحق، وظلت، جامعة وطنية فلسطينية عربية. وجاء ما يسمى بالصحوة الإسلامية (كأنَّ صلاة والدي وجدي كانت صلاة نائمين!)، ثم جاء الإسلام السياسي. وتغيرت الأولويات الانتمائية.

 

عامل قادة الإسلام السياسي المسيحيين في العالم العربي بالحسنى، وظلوا يقولون: "إخواننا المسيحيون". لكنهم بدون شك أبعدوهم عن الدائرة الانتمائية الضيقة. وذهب جيل وجاء جيل. والذي يعيش إلى أن يرى جيلاً يمضي وجيلاً يأتي يحس بالفارق.

 

كثيرون من أبناء الجيل الجديد يرون الانتماء الإسلامي هو الأساس، وبعضهم يراه الانتماء الوحيد. وساعدتهم السياسات الغربية التي صنفتنا مسلمين أولاً وعرباً ثانياً، ورضينا بالتصنيف. وجاء التشدد في الدين لكي يدق مسماراً من تلك المسامير التي تشق الخشبة. وجاءت حكوماتنا "العلمانية" فأرادت المزاودة على الإسلام- السياسي فجعلت كتب الدين المدرسية أكثر تشدداً.

 

صادف يوماً إنني ذكرت رجلاً اسمه "ألفرد" وقلت في السياق: رحمه الله، ففاجأتني فتاة بالقول: انتبه يا أستاذ، فقد يكون هذا الرجل مسيحياً، ولا تجوز عليه الرحمة! هكذا يدرسونهم في المدارس.

 

المسألة الانتمائية معقدة. أوروبا وأميركا فيهما انتماء مسيحي قوي. ولكن الغلبة هناك للانتماء القومي. والانتماء القومي في ألمانيا وبريطانيا ليس حميداً دائماً، فهو بوابة للعنصرية. ولن يصل بنا التفاؤل إلى أن نطلب من البشر أن ينتموا إنسانياً فقط. هذا الأمر قد يتحقق لدى قلة من الناس ممن طافوا وشافوا. فأما معظم البشر فهم حبيسون في انتماءات أضيق.

 

المجتمع
المجتمع "المتنوع" أغنى ثقافياً وفكرياً، وأغنى من ناحية أخرى أهم من الثقافة ومن الفكر.. هو أغنى بالتسامح
 

المسيحيون في فلسطين، ومنذ المسيح، أبناء الأرض: منهم الفلاح والطبيب، ومنهم الفقير والغني. ولم تؤثر في انتمائهم لأرضهم الجمعيات التبشيرية، لكنهم بالتأكيد شعروا مؤخراً بأنهم أخرجوا من دائرة الانتماء الضيقة. ومع موجات الهجرة هاجر منهم كثيرون. كانوا في فلسطين نحو 15% من السكان، وصاروا أقل من 2%.

 

البلد فيه أطباء مسلمون، وفيه رياض أطفال إسلامية، وهجرة المسيحيين لا تعني أن البلد ستفقد خبراتها. لكن تجربتي الشخصية علمتني أن المجتمع "المتنوع" أغنى ثقافياً وفكرياً، وأغنى من ناحية أخرى أهم من الثقافة ومن الفكر.. هو أغنى بالتسامح.

 

النزوح المسيحي عن أرض العرب تغريبة شبيهة بما حدث بعد انهيار سد مأرب. وهي معمعة ضخمة، أساسها اقتصادي أولاً وسياسي ثانياً وانتمائي ثالثاً. ولم أتناول هنا سوى البعد الثالث. فإن شتمني الكثيرون على هذا المقال (متوقعٌ جداً)، فسوف أمضي في تشريح البعد الاقتصادي، والسياسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.