شعار قسم مدونات

أن تكون أو لا تكون

Blogs- sky
"لا تمت قبل أن تكون نِدًا" قالها غسان كنفاني في محاولة منه وهو المدافع عن القضية الفلسطينية حتى الاغتيال أن يحُث من حوله على أن يكونوا حاملين للقضية مُستميتين بشدة في الدفاع عنها، لا أظن أن غسان قبل أن يُغتال بلحظات كان يعبأ بمصيره أو يهتم لقاتليه، الأمر برمته لم يكن يأخذ من تفكيره شيئًا في ذات الوقت الذي ملأ إيمانه بالقضية حياته فكان يظهر ذلك حتى في حديثه عن الحب.
        
رأيت حاملي الأفكار دومًا يسيرون على نفس الوتيرة المشتعلة بإيمانهم الهادئة في حركاتهم المطمئنة على مصيرهم، أسرني كثيرًا ذلك حتى ظننت لوهلة أنه يمكن لكل شخص بكل يسر أن يصبح حاملًا لقضاياه، لكن كان الأمر أعقد من ذلك بكثير فهذا بالضرورة يتطلب منك بناء أفكارك الخاصة وإيمانك بها والحفاظ عليها بنفس اشتعال البداية الأمر الذي يتطلب منك أن تستزيد على الدوام، وأن تكثر البحث لتعلم في خضم سعيك أنك ستواجه التناقضات وهادمي الأفكار وأنه يجب عليك أن تحمل الحجة البالغة فتتحول لصراعات عنيفة بداخلك فضلًا عن تلك البادية للجميع.
           
أن تحمل فكرًا يعني أن تكون بالأساس قادرًا على رعايتها، ليس لأنها ستموت إن أهملتها ولكن في هذا الأمر إساءة لها، العديدون يدّعون ذلك ولكن الصادق منهم من استطاع حتى الرمق الأخير الدفاع عما بين جنبيه، ألا يكون كلبًا يعوي وراء القافلة الماضية، يؤمن بما يحمله.
         

الأفكار لا تمنع المتحدثين عنها ولكنها لا تعبأ بهم غير أنها تتشبث وتدافع عن مريديها، تقف أمامهم معرفةً وحصنًا
الأفكار لا تمنع المتحدثين عنها ولكنها لا تعبأ بهم غير أنها تتشبث وتدافع عن مريديها، تقف أمامهم معرفةً وحصنًا
 

في بدايات المعركة على المرء دومًا أن يعني بنفسه ومن ثم عليه الالتفات لمن حوله، عليه أن يحمل فكرته النبيلة وينثرها في الأجواء، ليس عليه في كل وقت أن يكون مسئولًا عن زرع فكرته في القلوب لكن ما عليه هو أن يوصلها بكامل الحب والإيمان إليهم، وأن يعمل على سقياها جيدًا، ولكن الأهم دائمًا أبدًا أن يعتقد هو في فكرته اعتقادًا يقينيًا مدفوعًا بالعمل، فليس على المرء سوى أن يراك تتكلم بحرارة شديدة عما تعتقده، أن يرى بريق عينيك ممتدًا إليه فذاك كافيًا أن يحرك في نفسه خبيئة الحماس، أن يشعل فيه حرارة البحث لما تؤمن به.

    
الحياة قاسية وبها من الحروب ما يكفي لأن تجعلك مُدمَّرًا وحيدًا ولكن سلواك تكمن فيما تعتنقه من الأفكار وما ينبض به قلبك من المعتقدات وما تلبث أن تتركها في مهب الريح حتى تجد روحك قد سبقتها، فتمسُكِك بما تؤمن يعينك على الوقوف والمواجهة حتمًا. الحديث مُدمر الخُطى والإيمان باعثه ومن كان بحديثه مؤمنًا ولعمله مضيعًا كانت فكرته أقرب إلى الهاوية وليس أيسر على المرء من حديث لا يعد له عُدة وكثير ما هم، الأفكار لا تمنع المتحدثين عنها ولكنها لا تعبأ بهم غير أنها تتشبث وتدافع عن مريديها، تقف أمامهم معرفةً وحصنًا ولا أظن حاملًا لها كان مصيره الهاوية وإن كانت نار المتشككين أضرمت فيه فقد كانت هي ملاذه ودفاعه فظلت تنطق عنه بعد موته أثرًا لا يختفي، فالفكرة سجنه وحريته، سجنه إن كان بها مقيدًا لا يستطيع الانطلاق خوفًا وحريته إن أبقت على مهج فكان بها منطلقًا، ومن لم يعرف من نفسه المقدرة كان الوقوع أولى به، فالفكرة تحب أن ترى من صاحبها تمسكًا وإيمانًا فإن كان منه الخوف كانت أول من أودى به.
       
أن تعرف ما أنت مقدم عليه من الحروب وتعد له عدتك وعتادك وتعلن أنك بها على أتم الاستعداد للمواجهة لا تخشى منها تلك النيران التي تكون في انتظار حامل القضية، أن تعلم موضع قدمك والألغام، وأن لكل معركة تبعات وغاية القوي ترك الأثر ولو تمزقت إربُا حتى تضع الحرب أوزارها، وأن يعرف أن العيش لا يسلم من أول مرة وأن غاية تمسكك تكمن في الوقوف في كل مرة بهد الوقوع وأن كل عثرة تترك مكانها أثرًا لا ينجلي وإن لم تعرف ذاك فالترك وعيش الضعفاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.