شعار قسم مدونات

عادات الشراكسة.. ترِكـة لا تُتـرَك

blogs الشراكسة

لم يُبدِ الأبُ في تصرّفاته أي مظهر من مظاهر الفرح والإعجاب بأعمال ابنه البطوليّة في سبيل حماية الوطن إبّان تعرّضه للخطر، وكذلك الابن الّذي كان في ريعان شبابه أدركَ أنّه من غير اللائق بالنسبة للرجل الحقيقي التباهي أمام والده ببطولاته الّتي تواترت على مسامع الناس، إلّا أنّه لم يتمالك نفسه ذاتَ مرّة وروى لوالده كيف فاز على الجميع وتفوّق عليهم في مسابقات الرياضة والفروسية، فألقى الوالدُ من فوره كلماتٍ حفرت عميقاً: إنّ من يتفاخر بالبطولات الصّغيرة لن يحقّق الكبيرة منها أبداً.

إنّها من منظومة القيم والعادات الأخلاقيّة والاجتماعيّة الشركسيّة الّتي نُقِشت في القلوب ووَقرت في الألباب، وسرت في الشراكسة مسرى الدّم، فغدت وكأنّها جينات يحملُها الخلَفُ عن السلف، رافقتهم في مسير التهجير القسريّ العسير بعدَ حربٍ شعواء َوضعت أوزارها سنة 1864م بعد أن دامت قرابة مائة وخمسين سنة، شنّها قياصرة الروس عليهم في سبيل حكمهم ووضع بلادهم الواقعة شمال جبال القوقاز وجنوب روسيا بين بحر قزوين وبين البحر الأسود تحتَ براثنهم وثنيهم عنِ اعتناق الإسلام.

تلك المنظومة من القيم والعادات سمّاها شعبُ الأديغه الشركسي (أديغـه خابــزه)، فهي تنظّمُ حياة الإنسان الشركسيّ منذ ولادته حتّى وفاته، وتتبعه خطوةً إثرَ خطوة في كلّ فصول حياته وسيرهِ اليوميّ، فمثلاً عندَ الاستفسار عن شيءٍ ما أو طلب مساعدة من شخصٍ غريب فيجب أن يكون من الشباب أو من ذوي العمر المتوسّط فقط، أي إن كان الشركسيّ في مكانٍ غريب فلا يجب عليه إزعاج كبار السن بالاستفسار وطلب المساعدة، إذ يُعتبرُ لفتُ انتباهِ أحد الكبار إليه من مظاهر التربية، وإن كان الشركسيّ في دياره وأرادَ قولَ شيءٍ لكبيرٍ في السن يمشي في الطريق فلا ينبغي مُناداته باسمه، بل يجبُ اللحاق به والسير إلى يساره كي يُلاحظَ ذلك، فيُلقي عليه السلام ويسأل عن صحّته ثمّ بوسعه بعد ذلك أن يسأله عمّا يريد.

اعتبر الشراكسةُ أنّ الملابسَ الجميلة تفرضُ على الفتاة السلوك الحسَن، إذ تميّزتِ الفتَيات والنساء الشركسيّات بالحشمة في اللباس والذوق الرفيع فيه
اعتبر الشراكسةُ أنّ الملابسَ الجميلة تفرضُ على الفتاة السلوك الحسَن، إذ تميّزتِ الفتَيات والنساء الشركسيّات بالحشمة في اللباس والذوق الرفيع فيه

وكذلك من جملةِ هذه المنظومة كما يقول أحد كبارنا مُحمّد أديب شابسوغ أنّ على الفارس الراكب إذا اعترضت طريقه امرأة شركسيّة التوقّف والترجًّل عن حصانه والبقاء واقفاً حتّى تمرّ المرأة احتراماً لها، أمّا إذا التقى بها في منطقةٍ نائية فعلَيهِ أن يترجّل عن حصانه وأن يوصلها حيثُ تريد مشياً وبينهما الحصان، وأمّا إن كان الرجلً مترجّلاً دونَ حصانٍ فعلى المرأة الوقوف في مكانها حتّى يمرّ الرجل من أمامها غير ملتفٍ إليها، ويقولُ أيضاً: جلدُكَ يُدخِلُكَ بين الناس وبطنُك يُخرِجُك، أي انّ أناقة وجمال هندام الشركسي يُدخلهُ مُحترماً بين الناس ويخرجه قلّه وسرعة أكله من بينهم سالماً دون انتقاد.

وقدِ اعتبر الشراكسةُ أنّ الملابسَ الجميلة تفرضُ على الفتاة السلوك الحسَن، إذ تميّزتِ الفتَيات والنساء الشركسيّات بالحشمة في اللباس والذوق الرفيع فيه، فلا توجدُ إضافات لا معنىً لها أو ألوان فاقعة قبيحة المنظر.

ويُروى أن كانَ مجموعة من الرجال يجلسونَ في شارع إحدى القرى الشركسيّة، فمرّت من جانبهم فتاة لم تصل سنّ البلوغ، فنهضَ قازَنوقه جباغ أحد حكماء الشراكسة واستقبلها بتحيّة، فاستغربَ الرجال ذلك وسألوهُ لماذا نهض وهي لا تزال طفلة، فردّ قازَنوقه: لم أنهض بسبب سنوات عمرها ولكن لأنّها أمُّ المستقبل وربّما تتعلّم ما تراه وتنقله إلى أبنائها.

لقد عدَّ الشراكسة من تقدَمَ منهم في الحرب بسلاحه وفي المجالس بأقواله وحكمته زعيماً لهم، وقالوا: الشجاع يموت ولا يُنسى لكنّ الجبان يندثر ذكره بعد موته، كما قالوا: الإنسان الّذي لا يستشيرُ ناقص، وكذلك قالوا: تجوّل في الدنيا ولكن عُد إلى بيتك.

ولعِبَت الخابزه دوراً بارزاً في تعزيز اقتصاد بلاد الشراكسة والتجارة بينها وبين البلدان الأخرى قبل تهجيرهم، إذ أحبّ التجّار الأجانب من إنكليز وفرنسيّين وإيطاليّين وإسبان وهولنديّين وأتراك التعاملَ معهم، وأُعجِبوا بما أبداهُ الشراكسةُ لهم من حُسنِ الاستقبال والوفاء، ودأبوا على التجارة بينهم وبين الشراكسة رغم مضايقات الروس.

أمّا فصل التهجير فقد كان من أقسى الفصول على الشراكسة، وكان رُبّ ضارّةٍ نافعة بالنسبة للعُثمانيّين، وذلك بضمّهم أعداد كبيرة من الفرسان والمحاربين الشراكسة في صفوف الجيش العثماني الّذي ما فتئ يخوضُ الحربَ تلوَ الحرب وخاصّةً في بلاد البلقان، فقدِ اشتُهِر الشراكسة بقدراتهم القتاليّة الفذّة ومهارتهم وشجاعتهم ويروي جانباً منها السّيف الشركسيّ، فهو يمتازُ عن غيره مِن السيوف بعدم وجودِ واقٍ لليد في نهاية مقبضِه، إذ كان الفارس الشركسي يأنفُ أن يحمل سيفاً له واقٍ يقي كفّه وقبضته من الضربات أثناء القتال، مُعتبراً أنّ اليد الضعيفة غير القادرة على إمساك السيف واستخدامه هي الّتي تحتاج لمقبضٍ يحميها أثناء القتال.

حتّى وقتنا هذا تنتشرُ الجمعيّات الشركسيّة في الشتات، إذ تشكّلُ صلةَ وصلٍ قوميّة واجتماعيّة، وهويّة تُثبتُ وجودهم وطابَعَهم وتراثهم
حتّى وقتنا هذا تنتشرُ الجمعيّات الشركسيّة في الشتات، إذ تشكّلُ صلةَ وصلٍ قوميّة واجتماعيّة، وهويّة تُثبتُ وجودهم وطابَعَهم وتراثهم

لقد عرف العثمانيّون ذلك حقّ المعرفة واستغلّوهُ فأرسلوا سفُناً بالتّفاهم مع الروس إلى سواحل البحر الأسود حيث جرى تجميع المُهجّرين الّذين مات العديدُ منهم جوعاً وعطشاً ومرضاً أثناء انتظارهم تلك السّفن الّتي غرق العديد منها في البحر لأنّها لم تكن ملائمة لتحميل البشر.

ورغم ذلك فقد قاتل الشراكسة في صفوف الجيش العُثماني ببسالةٍ وولاء حتّى نالوا الاستحقاق بتقلُّدِ مناصبَ رفيعة فيه، وحتّى وقتنا هذا في الجيش التركيّ، كما وزّعت الدّولة العثمانيّة عدداً من المُهجّرين الشراكسة إلى تركيا على سوريا والأردن وفلسطين، فبنوا قًراهم وبلداتهم وسكنوا فيها واستقرّوا، وساهموا في حياتها الاقتصاديّة والسياسيّة ولا سيما العسكريّة، وبالخصوص في الأردن وسوريا حيثُ شغلوا مناصبَ سياسيّة وعسكريّة حسّاسة.

وحتّى وقتنا هذا تنتشرُ الجمعيّات الشركسيّة في الشتات، إذ تشكّلُ صلةَ وصلٍ قوميّة واجتماعيّة، وهويّة تُثبتُ وجودهم وطابَعَهم وتراثهم.

إنّ ذكرى التهجير لا تزالُ واقرة في قلوب الشعب الشركسيّ عصيّةً على النسيان مهما طال الزمان عليها، يتخلّلُها حلمُ العودة إلى وطنهم والصّلاة على قمم جباله مُحرَّراً مُستقلّا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.