شعار قسم مدونات

رحلة لجوء.. غربة الأرواح والمشاعر

Blogs-syria
إنه فِصام الروح الحقيقي، فِصامٌ ثلاثي الأماكن، والأبعاد أيضاً، الجسد في المكان والقلب في مكان والعقل في مكان آخر، العالم الجشع هو السبب، الجميع يركضون نحو مصالحهم، الجميع يركضون إلى أهدافهم إلا نحن، نحن كنا الضحية فقط، صحيحٌ أنهم أماتوا المبادئ العامة في هذا الكوكب إلا أنهم حافظوا على غايةٍ نبيلة وهي هدفهم السادي في سرقة قوت الضعفاء وموارد البلدان.
          
وكما الجميع أنه لأولئك السُرّاق أتباعهم، أذنابهم، عُبّادهم، يتلقون أوامرهم منهم لمصالح مشتركة فهم بطبيعة الحال لهم نصيبٌ مما تقترف أيديهم من هتكٍ وفتكٍ وقتل، الفرق بين هؤلاء وأولئك أن الكبار عالميون أما الأذناب فمحليون، كالعصابات التي نسمع عنها ولكن على مستوى مناطقي، في بلدي حيث أصبحت مستنقعاً لتلك العصابات القذرة النجسة، كيف لا وهم القتلة المجرمون، قتلة الأطفال، قتلة الأبرياء قتلة النساء والعُجّز، في كل مجزرةٍ كانت عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، في كل شهقة طفلٍ أخيرة من قصفِ كيميائيٍ كان غضب الله على تلك العصبة، غضب الله وسخطه وعذابه حين يُبعثون، وأنا كطفلةٍ في ذاك الزمن وكشابةٍ الآن فأنا أرشيفٌ كما جميع من عاش هناك ولي نصيبٌ من ظلم أولئك الطغمة المفسدون، أعداء الله والعدل والإنصاف.
             
أيقنت أن دنيانا مهما كانت عامرة ستنتهي خراباً وتضمحل، وأن مسميات الفقد والحرمان، باتت أشياء محتمة ستحدث وتمضي كأي حدثٍ آخر 
أيقنت أن دنيانا مهما كانت عامرة ستنتهي خراباً وتضمحل، وأن مسميات الفقد والحرمان، باتت أشياء محتمة ستحدث وتمضي كأي حدثٍ آخر 
 

كنت صغيرة، كانت رؤيتي لا تتجاوز عائلتي وجدران بيتنا وبلدتنا التي كنت أمقت الكثير منها، وجوهٌ متكررة، مهاترات معتادة ولكنها أصبحت الآن جميلة في صندوق الذاكرة خاصتي، تبين لي فيما بعد أنه كان سجناً كبير بوجود نظامٍ جائر كنت حينها وقبل موجة الحرب هذه لا أفقه ممارسته، أعتقد أن عيشنا كان يعتمد على تجنّب الموت فقط، لسنا أمواتاً هذا يعني أننا أحياءُ حتماً، كانت المثالية المُعاشة تشبه كثيراً سمكاً جميلاً مُتنوعاً في الماء، لكنه ميّتٌ أيضاًً.

       
ببساطة، أخرجتني العشرون يوماً من مدينتي، تاك الفترة التي سُميت حصاراً والتي اعتقدت أننا لن نخرج أحياء منها، والتي لطالما تمنيت ذلك، إلا أن الله بالغ أمره، أظنها كانت بداية لشيء حقيقي، لأشياء مجهولة، ورحلة علم واكتشاف قد لا تنتهي، بدايةٌ للمهمة التي أُرسلنا لأجلها بالفعل، رغم كل ما حوته تلك الأيام، الاحتضار دون موت، الفقد، اللوعة أيضاً، هذا ما عاشه الشعبُ المقهور في حضرة النظام المتجبر، ولكن هيهات لجبروتهم أن يستمر وجبروت الله فوق كل جبروت، كانت المقدمة لبداية فصول رواية عظيمة حصلت معنا وحصلت مع جميع من عانا من تلك العصبة الفاجرة، بدأت رواية اللجوء المثيرة بحق.
              

إن هذه الثورة قد انتصرت ولو أن أهدافها لم تتحقق كلها ولكن تحقق بعضٌ منها والذي تحقق سيكون كافياً لإحداث تغيير على البلاد مستقبلاً

أذكر أنني يوماً ما، كنت أبكي على الحدود في رحلة لجوء قد تكون الأخيرة، ذهاباً دون إياب، مودعةً أرض الطفولة الخصبة التي كنا نحن زهورها لا أعلم، لكنني كنت أحترق على المسمّى أكثر من أي شيء آخر، لاجئين، كانت ملامح والدي تحفر أخاديد عميقة، نظرات والدتي الهلعة، المسافات التي

قطعناها المجهولة الوجهة، وأمنيتي المتكررة أن اعتصرهم في قلبي حتى تنتهي هذه المهزلة، التي لا يمكن أن تكون مكاناً لنا يوماً، كل ذلك مرّ كأنه نقطة من سطرٍ في فصل رواية عظيمة، هي كذلك، بات للحب معناً آخر فهو لم يعد حباً أصلاً، أي حبٍ و قد أصبح مجرد بحثٍ عن الأمان، اللهفة أيضاً تغيرت أصبحنا محترفين في إيجاد مواطن السعادة الجديدة ولكن دون أن نحصل عليها، في احتسائها كفنجان قهوةٍ مرٍّ قديم، بالتلذذ بتفاصيلها، كبرنا أكثر من الدنيا بكثير، تعلمنا أن نبتسم بإرادتنا، والذي كان بالأمس سُمّاً، بات مجرد لقمة غير سائغة.

       
أتقنّا فن الاحتمال ثم نفث الوجع، فهمنا تماماً معنى أن دنيانا مهما كانت عامرة ستنتهي خراباً وتضمحل مسميات الفقد والحرمان، باتت أشياء محتمة ستحدث وتمضي كأي حدثٍ آخر ربما، كالطعام مثلاً، كالنوم، فجميعهم قد تغيروا وتغيرت صفاتهم وأمكنة حدوثهم وطرق فعلهم. كوقت مستقطع للموت قليلاً، قررنا أن نكبر وحدنا، أن نصبح أباً وأماً لأهلنا، إخوتنا، فبعد العناء الذي تلقيناه في البلد الكئيب بحكامه ذاك، أصبحنا أكثر عطفاً على بعضنا، قررنا أن نترك أثراً للبشر أجمع، أن نُعِرِّفهم بقضيتنا، هذه كانت مشاعر لجوئنا ونحن نمضي ناظرين إلى الخلف عارفين أننا لن نعود.
             
إن من الأكثر الأمور تأثيراً الآن هو أن الماضي ذاك لن يرجع، ماضي أن يحكمونا براحتهم ودون أن يعكر صفوهم أحد، إن هذه الثورة قد انتصرت ولو أن أهدافها لم تتحقق كلها ولكن تحقق بعضٌ منها والذي تحقق سيكون كافياً لإحداث تغيير على البلاد مستقبلاً، إن أعظم إنجازٍ فعلناه هو أن أحفادنا لن يعيشوا مجدداً في تلك المزرعة التي كان يديرها أولئك الفاسدون، يكفي أن أولادنا وأحفادنا سيعرفون الحقيقة، يكفي أنهم سيعرفون معنى العدل والكرامة وسيتذكرون تضحيات هذا الجيل، والنصر للعدل والنصر للأبرياء، والهلاك لمن طغى وتجبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.