شعار قسم مدونات

الجابري والقراءة الحداثية لمقاصد الشريعة

مدونات - مكتبة إسلامية
تعتبر القراءة المقاصدية للنص الشرعي من أهم القراءات وأنجعها في فهم النص القرآني وسبر أغواره، ووقوفها على مراد الله ومقصده من الخطاب، متجاوزة بذلك القراءة الحرفية الجزيئية التي سادة فترة من الزمن وسيطرت الفكر الإسلامي. وقد تبلورت هذه القراءة في الفكر الإسلامي منذ بداياته، ونضجت أكثر مع الإمام الشاطبي، وفي عصرنا الحالي ألح العلماء على المدخل المقاصدي في التعامل مع النصوص الشرعية، خاصة في ظل تغير الظروف والأحوال بالمقارنة مع العصور الأولى للمسلمين، واعتبروه مدخلا مناسبا للتجديد والاجتهاد، وملبيا لحاجات العصر. 

وإذا كان هؤلاء الرواد دعوا إلى إحياء الفكر المقاصدي، واستئناف ما بدأه العلماء قديما، تأصيلا وتأهيلا، عبر وضع قواعد إعمال المقاصد وضوابطه في فهم النص الشرعي وفي تنزيله، فإن أصحاب القراءة الحداثية للنص الديني تبنوا هذا المدخل المقاصدي، أولوه عناية وحفاوة كبيرة، لما توفره من إمكانات تأويلية، وأفقا رحبا في الاجتهاد والتشريع.
غير أن التصور الحداثي للمقاصد يقوم على اعتبار المدخل المقاصدي والفكر المصلحي سبيلا للوصول إلى المضامين الحداثية، والتخلص من عبء الفكر الأصولي ذي القيود والعوائق في إعمال العقل في التأويل والتشريع. متخذا في ذلك منهج الصحابة في التشريع مثالا يُحتذي، خاصة الاجتهادات العمرية. وسوف يركز المقال على أحد أقطاب الفكر الحداثي في العالم العربي. ألا وهو المفكر المغربي محمد عابد الجابري.

إذا كان المدخل المقاصدي في الاجتهاد بدأ منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، فإن الأصوليين غيبوا هذا الجانب، الذي يفتح آفاقا واسعة للاجتهاد والتجديد

ينطلق المفكر المغربي محمد عابد الجابري في تعامله مع التراث من رؤية نقدية تهدف إلى تجاوز وقطع مع هذا التراث، والتموقع في موقع جديد يستجيب لمتطلبات الحداثة، حيث يقول: "والحق أن اهتمامي بالتراث لم يكن من قبل وليس هو الآن من أجل التراث ذاته، بل هو من أجل حداثة نتطلع إليها". وهذا يفسر سبب اهتمامه بالتراث، أن الحداثة حتمية وضرورية عنده، ليس من أجل التراث بل من أجل تفكيكه وتحويله إلى أنقاض، والعبور من خلاله إلى التقدم والحداثة.

يشرح ذلك الجابري بقوله: "الحداثة تبدأ باحتواء التراث وامتلاكه، لأن ذلك وحده هو السبيل إلى تدشين سلسلة من "القطائع" معه إلى تحقيق تجاوز عميق له، إلى تراث جديد نصنعه"، فنحن أمام إعادة صياغة وتشكيل لتراث جديد، يتم على أنقاض القديم الذي يجب احتواءه وتجاوزه بأدوات فكرية معاصرة، يكون فيها المنهج التفكيكي هو الأداة العصرية، لتحويل المطلق والثابت في التراث، إلى نسبي ومتغير خاضع لظروف الزمان والمكان، وهذا ما صرح به في كتابه التراث والحداثة. ويحدد الجابري مكونات التراث التي تشكل مفاصله الكبرى ألا وهي: اللغة والشريعة والعقيدة والسياسة، والتي يجب التحرر منها لتجديد العقل العربي. والتركيز في هذا البحث سيكون على كيفية تعامل الجابري مع مكون الشريعة.

وإذا كان الجابري أعلن أنه سيعتمد المنهج التفكيكي في دراسته للتراث فإنه يعلن في موضع آخر أنه يعتمد الآن أدوات التراث نفسه باعتبارها سبيل ووسيلة للتجديد. وهو إجراء تكتيكي، بحيث أن الجابري في حاجة إلى سند تاريخي للوصول إلى المضامين الحداثية المعاصرة، "إن هذا يعني أن قراءتنا لما كان موضوعاً للتفكير أو قابلاً لأن يكون كذلك في تراثنا، ستكون موجهة بالرغبة في إيجاد سند تاريخي يمكننا من تأصيل المضامين الحديثة والمعاصرة التي يحملها مفهوم الإنسان وحقوقه، تأصيلها في وعينا ومرجعياتنا". وإذا كان نقده للتراث باعتباره عائقا أمام الإبداع والحداثة، وأنه تحكمت فيه مرجعيات فقهية غير موثوقة وأنها موجهة بظروف تاريخية وسياسية، فإنه يرجع بالتراث إلى بدايته الأولى الممثلة في عصر الصحابة رضي الله عنهم، ومنهجهم في التعامل مع الوحي فهما وتطبيقا.

المصلحة التي تمليها ظروف الزمن والمكان هي المحدد للاجتهاد ولا شيء غير المصلحة، حتى ولو اقتضى الأمر صرف النظر عن النص الشرعي وما يدل عليه من أحكام شرعية ملزمة
المصلحة التي تمليها ظروف الزمن والمكان هي المحدد للاجتهاد ولا شيء غير المصلحة، حتى ولو اقتضى الأمر صرف النظر عن النص الشرعي وما يدل عليه من أحكام شرعية ملزمة

فاجتهاد الصحابة رضي الله عنهم عنده كان يعتمد بالأساس على مبدأ المصلحة الكلية، فهي المحدد الوحيد لاجتهاداتهم، فالمصلحة التي تمليها ظروف الزمن والمكان هي المحدد للاجتهاد ولا شيء غير المصلحة، حتى ولو اقتضى الأمر صرف النظر عن النص الشرعي وما يدل عليه من أحكام شرعية ملزمة. ويدعو الجابري إلى اعتماد هذا المنهج، منهج الصحابة في الاجتهاد، القائم على اعتبار المصالح محددا كليا في عصرنا الحالي، وفي تطبيق الشريعة المبنية على اعتبار المصالح وعدم إلغائها، فيقول: "يجب أن تؤسس عملية تطبيق الشريعة في كل زمان ومكان، وهي اعتبار المصلحة العامة، يبقى بعد هذا المبدأ الأساسي العام تحديد المصلحة في كل نازلة وفي كل حكم، وفي هذا شيء سهل لأن ميدان البحث عنها ميدان بشري"، هذا الميدان البشري هو المصدر الذي تستمد منه المصالح، وتستخرج منه المقاصد الكلية الحاكمة.

مكمن الخلل في القراءة الحداثية للمقاصد هو تغييب النصوص الجزئية لحساب المقاصد الكلية، وجعل التمسك بالجزئي نقيضا للعمل بالكلي

المدخل المقاصدي- عند الجابري- محدد حاسم في التجديد والاجتهاد المعاصر، وتطبيق الشريعة في عصرنا الحالي، وهذه المقاصد تقوم في جوهرها على مراعاة مصالح الناس في حياتهم اليومية، والمصالح تفرضها تفاصيل الحياة اليومية وتشعباتها، فالواقع يحدد المصالح ويمليها علينا، وهذا ما أعطاها مرونة كبيرة واحتمالية أكبر، بما يجعلها جسرا للعبور إلى المضامين الحداثية، القائمة على اعتبار الفاعل البشري في الواقع بدل التحكم السماوي. ومثال الاجتهاد المقاصدي في فهم النصوص الشرعية وفي تطبيق الشريعة الإسلامية هو حد السرقة، القائم على قطع يد السارق، يقول الجابري: "فإننا نجد أن قطع يد السارق تدبير مبرر ومعقول داخل تلك الوضعية، وهكذا فبالرجوع إلى زمن البعثة المحمدية والنظر إلى الأحكام الشرعية في إطار الوضعية التي كانت قائمة يومئذ سنهتدي إلى المعطيات الآتية:

– أولا: أن قطع يد السارق كان معمولا به قبل الإسلام في جزيرة العرب.
– ثانيا: أنه في مجتمع بدوي ينتقل أهله بخيامهم وإبلهم من مكان إلى آخر طلبا للكلأ، لم يكن من الممكن عقاب السارق بالسجن، إذ لا سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون، وتمده بالضروري من المأكل والملبس، وإذن فالسبيل الوحيد هو العقاب البدني".

إذا كان المدخل المقاصدي في الاجتهاد بدأ منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، فإن الأصوليين- حسب الجابري- غيبوا هذا الجانب، الذي يفتح آفاقا واسعة للاجتهاد والتجديد، وغلبوا المدخل اللغوي البياني الذي يحصر الاجتهاد في النصوص، ويضيق مجال اشتغال العقل. وبهذا المفهوم الخاص لديه للمصلحة وللشريعة يدعو إلى تطبيق الشريعة، واستبعاد العلمانية وتعويضها بالديمقراطية والعقلانية. وبالتالي نجده يدعو إلى اعتماد المدخل المقاصدي، للقفز على النصوص الشرعية، أو الوصول إلى المضامين الحداثية.

وقفة نقدية مع القراءة الحداثية
تخرج القراءة الكلية للشريعة، عند التيار الحداثي، بالمقاصد عن البناء اللغوي، الذي أصلّه وأحكم قواعده وضوابطه الإمام الشافعي، وتعطي الأولوية للعقل من أجل الاجتهاد والإبداع بعيدا عن القواعد التي وضعها العقل الفقهي والأصولي، وتجعل المصلحة هي المعيار والموجه للاجتهاد المعاصر، وأن الأحكام الشرعية لم تشرع هكذا بدون غايات ولا مقاصد، فوجب البحث عن هذه المقاصد، واستحضارها، ومراعاتها في العملية التشريعية، لأن هذه القراءة المقاصدية تتيح مرونة كبيرة في التشريع الإسلامي المعاصر.

مكمن الخلل في القراءة الحداثية للمقاصد هو تغييب النصوص الجزئية لحساب المقاصد الكلية، وجعل التمسك بالجزئي نقيضا للعمل بالكلي، ما جعل تمسك هذه أصحاب هذه القراءة بالمقاصد تمسكا شكليا غير حقيقي، لأن تجليات العمل بالكلي تكون في تطبيقه في الواقع عبر جزئياته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.