شعار قسم مدونات

نظرية الأجساد الملقاة على الكراسي

blogs - كرسي
يعلمنا ربُّنا عز وجل، من خلال قصة إلقاء جسد على كرسي سليمان عليه السلام، أن المُلك ليس شرفا، وأن كرسي الملك من الهوان بحيث أنَّ شيطاناً لعيناً يمكن أن يتبؤه. حدث هذا في أعظم مُلكٍ عرفته البشرية: شيطان وضيع تربّع على العرش! انشغل سليمان ذات يوم باستعراضٍ كانت تؤديه جوقة مختارة من الخيول حتى توارت الشمس بحجاب الأفق ففاتته الصلاة؛ فلما انتبه انهال ذبحاً على تلك الخيول.

ولعلها كانت أحصنة ذات روعة وقدرة على الرقص أو الاستعراض، وهذا معنى وصفها بأنها من "الصافنات الجياد". والأرجح أن عددها كان محدوداً، ولا وجه البتة لأن تكون ألوفاً مؤلفة، وإلا فإن منظر مرورها الرتيب ما كان ليشغل سليمان عن صلاته. وكان إلقاء جسد على كرسي سليمان امتحاناً له، ودرساً لنا. والثابت في القرآن الكريم أن الجسد كائن غير بشري. وفي حالة كرسي سليمان كان الجسد جنياً. 

ما ينبغي لأحد أن يطلب الملك أو يسعى إليه. وهذا مما يجهله، للأسف، كثير من العامة وبعض الخاصة. ففي المعراج اختار الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكون عبدا رسولا على أن يكون ملكاً رسولا، مثلما فضل، عليه صلوات الله وسلامه، قدح اللبن على قدح الخمر، وقدح العسل. المُلك يُعطى، ولا يُطلب، ويقبله المكلف مُكرهاً وجِلاً.

هناك دائماً رجال ونساء تواقون للمال والشهرة والنفوذ يشتريهم الشيطان بحطام الدنيا في مقابل أن يفسدوا دنيا الناس ودينهم
هناك دائماً رجال ونساء تواقون للمال والشهرة والنفوذ يشتريهم الشيطان بحطام الدنيا في مقابل أن يفسدوا دنيا الناس ودينهم

تمثل "الأجساد الملقاة على الكراسي" أحد أهم عناصر مؤامرة الشيطان على البشر. ويعتمد الشيطان في إنفاذ خطته على أعوان وأولياء يمنحهم السلطة، بأن يضع، على كل ما يمكن من كراسي المسؤولية، "أجساداً" تفسد على الناس حياتهم ودينهم. ونقصد بالأجساد هنا بشراً، من شياطين الإنس. وهذا سبب ما نراه في حكوماتنا الوطنية ومؤسساتنا الدولية من فساد مستشرٍ. ويكفي أن يكون الشخص مفرط الطموح، همه السلطة والشهرة والمال، ليتحول، عاجلاً أو آجلاً، إلى جسد من الأجساد ملقيّاً على أحد كراسي المسؤولية. ويكفي أن تُقبِل الشعوب على شخوص الرجال فتقدسها، على حساب المبادئ والقيم، ليسلط الله عليها "أجساداً ملقاةً على الكراسي" تذيقها الأمرين.

قال تعالى: "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ" (سورة ص، 181). وللمفسرين "التنزيهيين" أقوال تنفي جواز أن يُبتلَى نبيٌّ من الأنبياء بزوال حكمه ووضع جني بدلا عنه. وفي هذا مغالاة في التنزيه لا وجه لها. فليس زوال الملك بالأمر المهين للمؤمن في نظر المولى عز وجل، فإنه تعالى ينظر إلى قلوب عباده لا إلى مناصبهم. والتوبة من أفضل القربات إلى الله تعالى، ولذلك يمتحن الله عباده المقربين تطهيراً وتعليماً وقربةً لهم. فهذا خاتم النبين، عليه الصلاة والتسليم، يعاتبه ربه في آيات منها: "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى" (عبس/1-2)؛ و"عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ" (التوبة، 43)؛ و"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ" (التحريم، 1).

إذن فإن الله عز وجل فتن عبده سليمان بسبب هفوةٍ تُعدُّ سيئةً في مقام نبوته؛ فألقى على كرسيه جسداً لبعض الحين. وورد في أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شيء يختلف في النوع وفي الدرجة، وذلك حين تأخر الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، فاغتم وحزن، ثم جاءه الوحي معاتبا: "وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا"، (الكهف/23).

لا نريد الخوض في تفاصيل حادثة إلقاء الجسد على كرسي سليمان، إذ إنها تعج بالإسرائيليات. ما يهمنا هنا أن حكم النبي سليمان قد زال، لبعض الوقت، وحل محله حكم فاسد، مع احتفاظه بالشكل والصورة.
إذن فقد مكَّن إبليس جسداً ليحكم الناس فيضلهم من خلال هذا المنصب المؤثر. ولإبليس طرقه في إتاحة وصول أوليائه إلى المناصب. وهو يجد دائماً من بني البشر من هم مستعدون لخدمته وتنفيذ مخططه، مقابل ما يهيئه لهم من المجد الدنيوي. ولا ينحصر هذا الأمر في المناصب السياسية والاقتصادية، بل يشمل المناصب الوظيفية والأدبية والعلمية والتعليمية والإعلامية والفنية، وحتى الدينية، بل وخاصةً الدينية. فهناك دائماً رجال ونساء تواقون للمال والشهرة والنفوذ يشتريهم الشيطان بحطام الدنيا في مقابل أن يفسدوا دنيا الناس ودينهم.

الطُعْم الذي يستخدمه إبليس واحد لا يتغير: الجاه والمال. الذئبان الجائعان اللذان حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم منهما. الكل يتكالب عليهما، والكل مفتون بهما
الطُعْم الذي يستخدمه إبليس واحد لا يتغير: الجاه والمال. الذئبان الجائعان اللذان حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم منهما. الكل يتكالب عليهما، والكل مفتون بهما

في قاعدة جبل جليد المؤامرة، تحت ظلمات الماء، يقبع إبليس الرجيم. وما المستنورون والماسونيون والصهاينة وغيرهم من الكيانات الغامضة إلا الجزء المرئي من قمة الجبل. وهناك آخرون كثيرون لا نراهم ولا نعلم عنهم شيئاً. وكبار الأعوان يعرفون ماذا يفعلون: إنهم يتعاونون مع الشيطان مباشرةً. يأخذون المقابل ويقدمون الخدمة. هؤلاء باعوا دنياهم بآخرتهم. وما المقابل إلا الجاه والسلطان والشهرة وغير ذلك من متاع الدنيا. أما صغار الأعوان فإنهم أبخس ثمناً. وهناك "كمبارس" ينفذون أدوارا جزئية، أو مرحلية، أو لا يدرون عن الأمر شيئاً، فهم لا يؤمنون بـ "نظرية" المؤامرة أصلاً!

وهكذا يتعين علينا أن نعلم أن إغواء الشيطان لنا لا يتم بالوسوسة في صدورنا فحسب. بل يقوم الشيطان بعمل مادي يصل إلى حد حشد الجنود راكبين وراجلين: "وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ" (الإسراء/64)، ومن ذلك إلقاء "الأجساد" على كراسي الحكم، وتهيئة بطانة السوء لهم. إنه يستهدف الكل، مستخدماً الكل، بما في ذلك الحكام ضد شعوبهم. ونستفيد من هذه النظرية أنه لمحاربة تلكم "الأجساد الملقاة" لا بد أولا من محاربة العدو المبين الذي يساعدها. ولما كان ذلك العدو يجري منا جري الدم في العروق، فعلينا أن نحاربه داخل أنفسنا أولا، لنصلحها، قبل أن نستطيع القضاء على تلك الأجساد.

قد يكون الجسد الملقى على الكرسي زعيما كبيراً أو صغيرا، أو رجل أعمال طماعاً، أو مسؤولا فاسداً، أو أديباً مغرورا، أو فنانا ضعيفاً، أو عسكرياً انقلابياً. وقد يكون مربياً مفسدا، مثلا، أو عالماً مُضلا. وقد يكون رجلاً أو امرأة أدنى مكانةً من كل هؤلاء. فكلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته. وكل راع منا يمكن، بالطمع، أن يتحول إلى جسدٍ ملقىً على كرسي الرعية.

إن الطُعْم الذي يستخدمه إبليس واحد لا يتغير: الجاه والمال. هذان هما الذئبان الجائعان اللذان حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم منهما. الكل يتكالب عليهما، والكل مفتون بهما، والكل يقيّم الناس على أساسهما. فتبرز الشخوص وتنزوي المبادئ.
هل طموحك، هو الزعامة أو الثراء من أجل الشهرة؟ إن قلتَِ نعم، فأنت لم تحذر الذئبين اللذين حذر منهما نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم. وبالتالي فأنتَ مشروع جسد ملقى على كرسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.