شعار قسم مدونات

كيف أنت بعد الفراق؟

blogs - فراق
تترك أشخاصا أمضيت معهم فترة غير هينة من حياتك، أحببتهم وأحبوك وألفت وجودهم أكثر مما ألفوا وجودك، حتى أصبحوا جزءا لا يتجزأ من حياتك ولا يكتمل يومك إلابرؤيتهم ومجالستهم. قد تأتي عليك أيام تتضجر فيها أو تشتكي ذلك الحال وقد تأتي أيام أخرى تغضب فيها من أحدهم إما لأن مزاجك سيء أو لأن مزاجه كذلك، ثم تهدأ وتعود، تعود لتألف أولئك الأشخاص والمكان والروتين الذي تقضيه معهم، حديثك مع أحدهم صباحا، نقاشاتك مع آخر طوال اليوم، نظرتك المعبرة لآخر عند حدوث شيء لا يفهمه أحد غيركما، كأس شاي مع آخر لا تجد حلاوته إلا في الجلوس والحديث مع شخص بعينه.

تألف

وتألف الأشخاص والمكان والطقوس، ثم تأتي ساعة الفراق، تلك الساعة التي قد تبدو لك في بعض الأحيان هينة لكنها لا تكون كذلك حينما تبدأ في حزم أمتعتك وتحين ساعة الوداع؛ قد تختفي عن الأنظار لأنك لا تستطيع توديعهم، وقد تودعهم وعيناك تذرف دموعا كثيرة لا تستطيع إيقافها، فلا تستطيع إطالة النظر إلى وجوههم لأنها تذكرك بالسنين الطويلة التي أمضيتها بينهم وباللحظات الجميلة التي قضيتها معهم، حبهم الا مشروط، دفئهم، تحملهم لك في جميع حالاتك ووقوفهم معك في فترات الحزن والفرح.

تجد صعوبة كبيرة في حزم أمتعتك، وتفكر مليا في إمكانية العدول عن قرارك، لكنك تكتشف أن التراجع لا ينفع وتكون على يقين أن الفراق حاصل لا محالة سواء اليوم أو غدا. فتحاول جاهدا استجماع كل قوتك حتى تحزم الأمتعة وتمضي قدما في حياتك دون أن تلتفت وراءك لأنك إذا نظرت فسوف تتراجع وتهرع إليهم من جديد. وأنت تجمع حاجياتك قد تجد رسالة نصية قد تركها لك أحدهم صباحا في أحد الأيام التي تأخرت فيها عن المجيء وقد تجد ورقة لا قيمة لها عليها كلمة أو جملة كتبتها خلال نقاش ما.

أمام الفراق؛ تشمر عن ساعديك وتقف حاسما مع نفسك، أنها تستطيع الاحتفاظ بالذكريات الجميلة والمشاعر النبيلة تجاه الأشخاص الذين أحبتهم
أمام الفراق؛ تشمر عن ساعديك وتقف حاسما مع نفسك، أنها تستطيع الاحتفاظ بالذكريات الجميلة والمشاعر النبيلة تجاه الأشخاص الذين أحبتهم
 

تتأمل في كل شيء على حدة فتعود بك الذكريات سنتين إلى الوراء ثم ثلاث ثم أربع حتى تصل إلى بطاقة أو نسخة تعيدك خمس سنوات إلى الوراء وبالضبط إلى أول أسابيع قضيتها في هذا المكان، كنت قد نسيتها تماما، ثم تعود من شرودك وتقرر إنهاء هذا التنقيب في الماضي لأنه لن يزيد الأمر إلا صعوبة.

بعد الفراق، ترحل وتبتعد فتجد نفسك محاطا بالناس لكنك مع ذلك تحس بوحدة قاسية، فتتذكر موقفا قديما حصل مع أحدهم فتضحك دون أن تعبث بمن حولك، وتظل شاردا تتذكر بعض التفاصيل ثم يعتريك شعور بالشوق فتحزن، ثم تسلي نفسك بشيء آخر محاولا النسيان لكنك لا تنسى؛ فتظل تتقاذفك مشاعر متضاربة من الحزن والشوق والفرح والغضب، ثم تهدأ بعدها هدوءا عجيبا كذلك الهدوء الذي يلي عاصفة هوجاء إلى أن تصل إلى مرحلة الصمت فتنصت ولا تعلق وأقصى رد فعل تستطيع القيام به هو ابتسامة باردة لا يفهم منها الآخرون إن كانت رضى عما يقولون أو اعتراضا ديبلوماسيا أم شيء آخر.

إذاك فقط تنتبه أن كل شيء في حياتك قد تغير، الزمان المكان الأشخاص وكل الظروف المحيطة بك كل شيء قد تغير جذريا، فإما أن تتأقلم وإما أن تتأقلم، لا وجود لحل آخر، فتشمر عن ساعديك وتقف حاسما مع نفسك تجرها كي تتأقلم وتعقد معها صفقة بأنك لن تطالبها بالنسيان وأنها تستطيع أن تحتفظ بالذكريات الجميلة والمشاعر النبيلة تجاه الأشخاص الذين أحبتهم وأمضت بينهم سنوات طويلة وأنها أكثر من ذلك لها الحق بأن تبقى على صلة دائمة بهم. فإن كانوا ممن فارقتهم فراق الدنيا بتغيير المكان فما أكثر وأسهل وسائل الاتصال في هذا العصر. وإن كانوا قد فارقوها إلى الدار الأخرى فيمكنها أن تتصل بهم اتصالا روحيا بحتا حتى تكتمل أواصره إلى أحاديث فعلية في الأحلام تؤنسها وتسليها فترة من الزمان حتى تحين ساعة اللقاء التي كتبها الرحمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.