شعار قسم مدونات

عن "ميّ" وأخواتها

blogs طفلتين

(يقـولون: سوداء العيون مريضة … فأقبلتُ من أهلي إليها أعودهـا

 

فوالله ما أدري إذا أنا جئـتها … أأبرئـهـا من دائـهـا أم أزيــدهـا

 

إذا جـئـتهــا وسط النساء منحتها … صدودا كأن النفس ليس تريدهـا

 

ولي نظرة بعد الصدود من الجوى … كنظرة ثكلى قد أُصيب وحيدهـا

 

وكنتُ إذا جئت ميا أزورهــا … أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدهـا

 

من الخفرات البيض ود جليسـها … إذا ما انقضت أحـدوثة لو تعيدها)

 

كنت ألاطف إحدى مريضاتي وهي على باب غرفة العمليات لإجراء عمليتها القيصرية الرابعة، سألتها وهي توصيني بنفسها خيرا خلال العملية: ماذا ستسمي العروس القادمة؟ قالت لي وبدت على وجهها ابتسامة واسعة غطت وجهها: سأسميها "ميّ"، ثم عادت إلى خوفها، قلت لها إن اسم "ميّ" في منتهى الجمال وقد حملته أديبة عربية استفزت شخصيتها كل الوقورين من الأدباء العرب كالعقاد بل والرافعي أيضا، كنت سعيدا وأنا أحاول أن أبعدها عن مخاوفها من العملية القادمة، وتابعت أنّ ذا الرمة قال قصيدة من أروع قصائد الغزل العربية في "ميّ" التي دلّل اسمها فصار "ميا" والتي مطلعها:

يقولون سوداء العيون مريضة … فأقبلت من أهلي إليها أعودها

 

"ميا" التي خلّدها ذو الرمة والتي انفردت عن كل نساء الدنيا بأن ذكراها كانت تطوي الوقت لشاعرها عكس كل الأخريات اللواتي كان الشوق إليهن يجعل الوقت مملا وطويلا

ثم قلت لها إن الكثير من الطبيبات المتفوقات يحملن هذا الاسم ولعل ابنتها تصبح يوما في مقدمة طبيبات البلد كزميلتنا الدكتورة ميّ، ثم ذكّرتها بقراءة آية الكرسي وقد بدأ تحريكها إلى غرفة التخدير.

 

مريضتي كانت تعرف خطورة تعدد العمليات القيصرية، خاصة وقد كنت أبلغتها بعد أن أجريت لها العملية الثالثة أن العملية كانت صعبة جدا وأنها لو حملت مرة أخرى فإن العملية القادمة ستكون أصعب، وقلت لها حينها إنها إذا حملت مرة أخرى فلتبحث لها عن طبيب آخر، وإنني لن أتعرف عليها، بل وسَتُحسن إليّ لو أبلغتني بموعد حملها القادم حتى أترك المستشفى.

 

مضى عامان قبل أن تأتيني كالمعتذرة لتقول لي إنها مصرة على أن أكون طبيبها طالما أن الله قد أمدّ في عمري لأكون أول من يحمل طفلتها الرابعة التي أعطاها زوجها حق تسميتها تطييبا لخاطرها عن الولد الذي لم تنجح مغامرتها الجديدة في إنجابه، وأنها ستسميها بالاسم الذي كانت تتمناه، قلت إنني سأقبلها هذه المرة مُكرها فقط لأجل المولودة القادمة الرابعة في بيت ما زال يبحث عن ولي عهده، وكالعادة وجدتُ نفسي منحازا إلى الجانب الضعيف، الانحياز الذي جعلني أتخصص في أمراض النساء بغير تردد حين وجدت الفرصة، وها قد جاء اليوم الأصعب في الحمل على طبيب الولادة يوم العملية الرابعة، دعوت بالمأثورات وبدأت العملية وحالما استخرجت الطفلة التي كان وجهها طافحا بالبِشْر أضاء وجه أمها التي اكتملت عمليتها على خير.

 

في عيادتي الأولى للأم بعد العملية سألتها كيف رأت "ميّ" الرضيعة التي يملأ الابتسام وجهها؟ قالت الأم إن زوجها قد رفض اسم "مي" لأن معناه بالعربية القردة الصغيرة التي تُضحك المشاهدين، قلت لها إذن سمّيه بالفارسية الذي يعني الراح، والذي حرمه الله في الدنيا ليبقي خالصا للمؤمنين في الجنة، قالت لي إن زوجها قال إنه لن يقارف هذه الخطيئة فيزيد البنت فألا سيئا آخر… وتهدّج صوتها، قلت لها برفق: وهل كان لها فأل سيئ أول حتى يكون اسمها هو الشؤم الثاني؟ دمعت عينا الأم قائلة: وهل أصعب يا دكتور من أن تكون الرابعة عند أب ليس له ذكور؟ طافت بخيالي معاناة الأم الشديدة مع العمليات الإنجابية ثم معاناتها الأخرى وربما الأعظم مع إنجاب البنات في مجتمع ما زال يُعامل البنات بمفاهيم العصر الجاهلي، وأخذت أواسيها: وهل يكره زوجك أن يشبه رسول الله أبا البنات الأربع؟!!

 

وحيث إن المقام لا يسمح بأكثر من ذلك بين طبيب ومريضته لم أجد فسحة للقول أكثر، عن "ميا" التي خلّدها ذو الرمة والتي انفردت عن كل نساء الدنيا بأن ذكراها كانت تطوي الوقت لشاعرها عكس كل الأخريات اللواتي كان الشوق إليهن يجعل الوقت مملا وطويلا.

 

وكنت إذا ما جئت ميا أزورها … تطوي لي الأرض أو يدنو بعيدها

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.