شعار قسم مدونات

حضارة غابرة.. بشهادة يهودي

blogs مكاتب الحضارة الاسلامية
بنيامين التطيلي. شخصية يهوديه من أوروبا الغربية، عاش في القرن السادس هجري، الثاني عشر ميلادي. وقد قام برحلة طويلة ومشوِّقة. جاب فيها جنوب أوروبا ومعظم الشرق الإسلامي ما عدا جزيرة العرب. ودوّن مشاهداته وما اطلع عليه من أحوال أهل ملته في كتاب عرف باسم "رحلة بنيامين التطيلي" طبعت نسخته العربية لأول مرة في بغداد سنة 1945 ترجمة عزرا حداد.
عاصمة البر والتسامح
يصل بنيامين هذا في سبيل رحته إلى بغداد دار السلام وعاصمة العالم آنذاك فينقل ما شاهده ووقف عليه من صور التسامح بين المسلمين وغيرهم من أهل الديانات والنحل وصور التعايش السلمي بين مختلف الأعراق والثقافات واصفا ما هاله في بغداد من زهو الحضارة وعظمتها وكان ذلك في عهد الخليفة المستضيء بأمر الله أبو محمد. يقول بنيامين: "بغداد المدينة الكبرى، كرسي مملكة الخليفة أمير المؤمنين العباسي. يدين له بالطاعة ملوك المسلمين قاطبة، وقصر الخلافة في بغداد واسع الأرجاء. تنوف استدارته على ثلاثة أميال. تتوسطه روضة غناء فيها أشجار مثمره وغير مثمرة من كل صنف. وفيها من الحيوان ضروب كثيرة. وفي الروضة أيضا بحيرة واسعة يأتيها الماء من حدقل (دجلة).. وقد جمعت فيها أصناف الطير والسمك".

كان يقيم ببغداد نحو 40 ألف يهودي.  يعيشون بأمان وعز ورفاهية في ظل أمير المؤمنين الخليفة. أما رئيس هؤلاء؛ فهو الرابي دانيال بن حسداي الملقب سيدنا رأس الجالوت

ويذكر الخليفة بإطراء شديد ويشيد بورعه وتقواه ويقول إنه كان يأكل من عمل يده وينوه بتسامحه ومعاملته الحسنة للهيود فيقول: ".. وهو حسن المعاملة لليهود، وفي حاشيته عدد منهم. وهو عليم بمختلف اللغات. عارف بتوراة موسى. يحسن اللغة العبرية قراءة وكتابة. وهو كذلك على جانب عظيم من الصلاح والتقوى يأكل من تعب كفيه. إذ يصنع الشال المقصب ويدمغه بختمه فيبيعه رجال بطانته من السراة والنبلاء فيعود عليه بالأموال الوافرة. وهو موصوف بالتقوى والصدق والاستقامة وطلب الخير لجميع رعيته".

التناغم الإنساني
ويتمادي بنيامين في ثنايا الرحلة في وصف تلك الصورة الفريدة من التناغم الإنساني التي لم يَجُد الزمان بما يضارعها على طول التاريخ البشري فيأتي على وصف احتفالات العيد والفلكلور المتبع في عاصمة الخلافة الإسلامية حيث يلبس الجميع ثوب الفرح والسرور من كل الديانات والملل ويسير موكب الخلافة على رأس تظاهرة بهيجة يمشي فيها كل سُراة الأمم وممثلين عن كل الشعوب من عرب وترك وديلم وكرد وفرس وتبت..

يقول: ".. ومن عادة الخليفة ألا يبارح قصره إلا مرة في العام، في العيد الذي يسميه المسلمون «عيد رمضان» فيحتشد الناس من أقاصي البلاد للاحتظاء بمشاهدته. ويمتطي الخليفة عند خروجه جوادا مطهما. وهو مرتد بردته المقصبة بفضة وذهب. ومتوج الرأس بقلنسوة مرصعة بالأحجار الكريمة التي لا يعدلها ثمن. وفوق القلنسوة قطعة قماش سوداء اللون. فيها ما يشير إلى التواضع. وفيها موعظة للناس بأن هذه الأبهة كلها سيغشاها السواد عند انقضاء الأجل. فيتحرك ركب الخليفة. يحف به نبلاء المسلمين وسراتهم. وكلهم رافل بالحلل الزاهية فوق صهوات الخيول. وهم أمراء العرب وعظماء الترك والديلم وفارس ومادي والغز والتبت ونواحي سمرقند التي تبعد مسيرة ثلاثة أشهر عن بلاد العرب . فيتوجه الموكب إلى المسجد الجامع للمسلمين في باب البصرة.

يذكر الرحالة بنيامين أحوال اليهود الهنيئة في ظل الخلافة الإسلامية، وما يتمتعون به من مزايا
يذكر الرحالة بنيامين أحوال اليهود الهنيئة في ظل الخلافة الإسلامية، وما يتمتعون به من مزايا

وتزين جميع الطرق والأسواق التي يمر بها أبدع زينة بأقمشة الحرير ذات الألوان الزاهية. فيستقبله الناس بالهتافات والتهاليل. ويخرون سجدا بين يدي هذا الملك الذي يسمونه الخليفة. وهم ينادون: «السلام على أمير المؤمنين ونور الإسلام!» والخليفة يرد عليهم التحية بلثم أطراف بردته والتلويح بها. فإذا ما دخل الجامع، يرتقي منبرا من خشب فيشرع في إلقاء خطبته على الجماهير ويفسر لهم أحكام شريعتهم. ثم ينهض كبار المسلمين فيرتلون الدعاء له ويشيدون بعظمته وفضله، فيهتف الجميع «آمين!»".

المجتمع المدني
وفي موضع آخر يذكر بنيامين أحوال اليهود الهنيئة في ظل الخلافة الإسلامية، وما يتمتعون به من مزايا. ويذكر نظاما مختلطا من قبل المسلمين لتسيير شؤون رعيا اليهود وغيرهم فيه قدر كبير من الرقي والمدنية :" ويقيم ببغداد نحو (أربعين) ألف يهودي . وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهة في ظل أمير المؤمنين الخليفة.. أما رئيس هؤلاء… فهو الرابي دانيال بن حسداي الملقب «سيدنا رأس الجالوت». ويسميه المسلمون «سيدنا ابن داود». وهو يستمد سلطانه من كتاب عهد يوجه إليه من الخليفة أمير المؤمنين عملا بالشرع المحمدي. وينتقل هذا المنصب إلى ذريته بالوراثة. وعند نصب الرئيس يمنحه الخليفة ختم الرئاسة على أبناء ملته كافة. وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر أبناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم. ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلده. وعندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير معه الفرسان من اليهود والمسلمين. ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: «اعملوا الطريق لسيدنا ابن داود … وعندما يمثل في حضرة الخليفة يبادر إلى لثم يده.

من أشد ما لفت انتباه الرحالة اليهودي بنيامين وهو القادم من أوروبا المظلمة آنذاك هو دور الرعاية الصحية والمستشفيات (المارستان) المنتشرفة في بغداد والتي تتكفل الخلافة بمؤونتها ومستلزماتها

وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية. فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة. ويسري نفوذ رأس الجالوت على جميع طوائف اليهود المنتشرة. ففي هذه الأقطار كلها لا يعين الرّابيون والحزانون إلا بمعرفة رأس الجالوت. وهم يشخصون إلى بغداد بعد نصبهم لمقابلة الرئيس. ويحملون إليه الهدايا والعطايا من أقصى المعمورة…. ويجري الاحتفال بنصب رأس الجالوت الجديد بمهرجان مشهور.. وعندما يمثل بين يدي الخليفة يتسلم منه كتاب العهد، ثم يضع أمير المؤمنين يده على رأس الرئيس الجديد. ومن ثم يعود إلى داره بموكبه الخاص وحوله الجماهير الغفيرة. وتنفخ أمامه البوقات وتقرع الطبول".

الرعاية الصحية في عاصمة الخلافة
من أشد ما لفت انتباه هذا الرحالة اليهودي وهو القادم من أوروبا المظلمة آنذاك هو دور الرعاية الصحية والمستشفيات (المارستان) المنتشرفة في بغداد والتي تتكفل الخلافة بمؤونتها ومستلزماتها فيقول: "..ويقوم على الجانب الغربي من مدينة بغداد، بين نهر دجلة ونهر آخر يأتي من الفرات بناء المارستان. وهو مجموعة من البنايات الواسعة. يأوي إليها المعوزون من المرضى رغبة في الشفاء ولهذا المارستان قوامون من الأطباء يبلغ عددهم الستين طبيبا، يعالجون المرضى ويطبخون لهم الأدوية. والخليفة يجهزهم بما يحتاجون إليه من بيت المال.

وفيها أيضا بناية تدعى دار المارستان يأوى إليها المجانين المغلوبون على عقولهم بتأثير حر القيظ الشديد! والأطباء يقيدونهم بالأغلال حتى يثوبوا إلى سابق رشدهم. ويعيشون مدة مكوثهم فيها بنفقة الخليفة. ويقوم أطباء الخليفة بتفقدهم مرة في كل شهر. فيسرحون من عاد إلى الصواب منهم ليعود إلى أهله. وتشمل خيرات الخليفة كل من أمّ بغداد من المرضى والمجاذيب. فالخليفة جزيل الإحسان. همه عمل الخير".

هذا ما شهد به الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي عن عصر غابر كان فيه المسلميون سادة العالم ومنارة التسامح والرقي وملجأ المستضعفين من كل الطوائف والأقليات. وإنه لا جديد تحت الشمس كما يقال فعوامل ذلك الرقي والسؤدد ما زالت قائمة صحيحة تأتي بنفس النتيجة لو أخذ بها المسلمون اليوم ولن تجد لسنة الله تبديلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.