شعار قسم مدونات

النموذج العمري للمرأة في "استرداد عمر"

blogs استرداد عمر

استرداد عمر كتاب سيرة لا يُشبه كتب السّير الأخرى، كتاب أراد من خلاله أحمد خيري العمري أن يتناول فيه حياة عمر بطريقة مختلفة، ليس مجرّد قِصة أو حكاية نقرؤها فننْبهِر أكثر بهذه الشّخصية الفريدة ثم نزّيِن بها رُفوف المكتبات فيأكلها الغبار، وإنما أراد من خلالها أن نسْترّد تلك القيم والمعاني والمواقف التي كانت في حياة عمر ونعمل بها في حياتنا، أراد من خلالها استرداد ذلك الفهم العمري للقرآن والسنة.

عندما وصلت إلى العنوان وقرأته أحسست وكأنني كنت أبحث عنه منذ وقت وقد وجدته وربما لأنه يتناول ذلك الموضوع الدّسم الذي ما إن فتحت مجلّة ورقية كانت أو إلكترونية أو موقع على الأنترنت أو قناة تلفزيونية أو مختلف الوسائط الأخرى إلاّ وكان الموضوع حاضرا ولو بجانب من الجوانب المتعلقة به ألا وهو موضوع المرأة.

"المرأة الأخرى في حياة عمر" عمر كأي رجل كان في حياته عدة نساء أمّه التي أنجبته وربّتهه وزوجته التي أنجبت أولاده و شريكته في مسيرة حياته الحافلة بالأحداث والإنجازات فكانت نعم السند، وأخته رفيقة الدّرب وسبب إسلامه، وابنته أم أبيها، ولأن عمر لم يكن رجلا عاديا رجلا صانعا للحضارة كانت هناك امرأة أخرى في حياته "المرأة العمرية" تلك المرأة التي استطاع من خلالها بناء حضارته وتشييدها.

نموذج المرأة الذي يغذّيه الإعلام يوميا ليوّجه إليه أنظار النساء، نموذج اصطناعي غير حقيقي كل همّه أن تبقى المرأة في مدار الرّجل دائما فصارت المرأة كيان عاطل
نموذج المرأة الذي يغذّيه الإعلام يوميا ليوّجه إليه أنظار النساء، نموذج اصطناعي غير حقيقي كل همّه أن تبقى المرأة في مدار الرّجل دائما فصارت المرأة كيان عاطل

لطاما هوجم شخص عمر من قِبل الغرب والتيّارات المعادّية للإسلام واعتبروه عدّوا للمرأة بسبب بعض مواقفه التي كان فيها ضد المرأة، المواقف التي حالت دون ظهور ذلك النوع من المرأة الذي يريدونه ويرّوجون له، خاصة موقف الحجاب ولعّله أهّم موقف يشيرون إليه وبمعزل عن موافقة القرآن لذلك لاحقا، إضافة إلى المواقف التي تدعو إلى ستر المرأة فالحجاب بالنسبة لهم الغول الذي يخافونه والهاجس الذي يؤرقهم، كانوا ولازالوا يحاربونه بقوة وبمختلف الطرق لذا فهم يرون عمر عدّوا حقيقيا للمرأة، ولأّنه الفاروق يفرّق بين الحق والباطل فإن عمر فعلا كان عدّوا لنموذج معيّن من المرأة ولكنّه كان داعما لنموذج آخر تماما.

نموذج المرأة الذي كان عمر عدّوا له:
فعلا حارب عمر نموذج معيّن من المرأة ذلك النّموذج الذي أرادوا أن يكون النموذج الغالب ويسعون ليكون كذلك، تلك المرأة التي جعلوها كائن جاء إلى هذه الأرض ليكون متعة للرجل فقط وهذا ما فهمه عمر، لم يكن هذا النموذج من المرأة خاصّا بزمن عمر وإنما كان عبر الأزمان وفي مختلف المجتمعات، فكان هذا النموذج الأكثر انتشارا دائما خاصة في يومنا هذا، فصارت مجمل حياة المرأة تتمركز حول كونها كائن للمتعة فقط حتى إنها اقتنعت بأن هذا هو دورها في الحياة، ورضيّت بأن تكون مجرّد أداة في يد الآخرين فاُستغلّت بطرق حقيرة من طرف سماسرة لإنعاش جيوبهم باتخاذها وسيلة للتّرويج لبضاعتهم، وبأنها صفقة اقتصادية بحتة قامت على أسهل الطرق وأسرعها انتشارا وأكثرها ربحا ألا وهي أن المرأة جُعلت للمتعة وإن تم تمرير ذلك بشكل مهذب وأنيق.

 

نموذج يغذّيه الإعلام يوميا ليوّجه إليه أنظار النساء، نموذج اصطناعي غير حقيقي كل همّه أن تبقى المرأة في مدار الرّجل دائما فصارت المرأة كيان عاطل، جاف وجامد مادي النزعة، تتفاعل مع الرّجل من منطلق مادي حسي فقط، فابتعدت المرأة عن إيمانها وأصالتها وأنوثتها الحقيقيّة وحيائها سرّ جمالها كلّه، بل وخلعت ثوبها فصار باطنها بليد وظاهرها بأقنعة مختلفة لا إحساس حقيقي ولا عاطفة صادقة.

كيف لنا ألا نحارب نحن أيضا هذا النّموذج من المرأة ونمنع انتشاره، وقد استأصلت المرأة من منابتها لتعيش في ضياع رغم كل مظاهر التقدم والتحضر فتُركت دون هويّة واضحة المعالم تستند عليها، فصارت تتخبّط بين متطلّبات العولمة ومطالب الرجل وضغوطات المجتمع وطموحاتها هي.

نموذج المرأة التي كان عمر حليفا لها: "النموذج العمري"

أراد عمر للمرأة أن تكون قوية صلبة، مؤمنة بقدراتها، نابضة بالعطاء مهما كانت مكانتها بالمجتمع، ذات عقل راجح وفكر، تستخدم كل القوى السامية التي تمتلكها

أراد عمر لنصف المجتمع المشاركة في صنع الحضارة وبناء دولة الإسلام، وليس أن تبقى مجرّد جزء من عملية التّرفيه عن الرجل، أراد أن يتحقّق فيها قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونْ) أليست المرأة تندرج ضمن هذا أيضا، لأنّه كان يعلم أن استمرار المرأة في النّموذج السابق سوف يشوّش على الرجل في تأدية دوره في صنع الحضارة وتحقيق الاستخلاف والذي هي أيضا معنية به، أراد منها أن لا تجعل الرجل ينجرّ في لعبة التّمتّع والامتاع وإنّما دورهما الحقيقي كإنسان قبل أن يكونا ذكرا وأنثى.

 

هذا النموذج الذي يوشك على الاندثار في يومنا وابتعدنا عنه لأنّنا نجهل الكثير عنه، خاصة في ظل اختزال الإعلام النساء جميعا في نموذج واحد غالباً ولو بعدّة شخصيات، رأى عمر أنه إذا كانت المرأة قد خُلقت لتكون متعة للرّجل هذا يعني أنّنا خُلقنا لهواً ولعباً وحاشا لله أن يكون خلقنا كذلك، لذا علينا أن ننفض الغبار على هذا النموذج لأنه موجود حقا، وعلى المرأة أن تستوعب اليوم أن لها دور كبير في النهوض بالأمة، وأن لا تكون حبيسة البيت ولا نقصد بهذا أن تكون خرّاجة ولاّجة وإنما يكون خروجها لأشياء مفيدة لها أو لغيرها محكوما بضوابط يحيد دون أي احتمال لاتخاذها كأداة للمتعة، فتكون بذلك رفيقة درب الرجل في بناء الحضارة والنهوض بالأمة وإحداث التغيير المنشود.

أرادها عمر أن تكون قوية صلبة، مؤمنة بقدراتها، نابضة بالعطاء مهما كانت مكانتها بالمجتمع، ذات عقل راجح وفكر، تستخدم كل القوى السامية التي تمتلكها، سندا يعتمد عليه الرجل وليس نقطة ضعف له بمعرفة وجهتها الصحيحة بالعودة لله عز وجل فتنعم بالهدوء والراحة وتستقرّ على طبيعتها التي خُلقت عليها.

إنّنا نعلم أنّ كل ما نصره عمر نصره الإسلام وكل ما عاداه عاداه الإسلام، وذلك من خلال معرفتنا للقرآن والسنة، لذا وممّا لا شك فيه أن النّموذج الذي يرّوج له الغرب هو النّموذج الباطل ونموذج الحق هو الذي نصره عمر.

إن هذا الفهم العمري لدور المرأة
إن هذا الفهم العمري لدور المرأة "حيث كان عدّوا لنموذج معيّن ونصيرا لنموذج آخر"، إنّما كان فهماً مستنداً للقرآن والسّنة كما أنه فهماً على النحو الصحيح

فعند العودة لمواقف عمر مع المرأة، نجد أنه يدعم المرأة الأخرى المرأة ذات الفهم العمري والتي ساهمت في عملية بناء الحضارة وصنعها، فكانت جزءا حيا من المجتمع، فأنصفها عمر وسمح لها بحرّية التعبير وإبداء رأيها، واستشارها وقلّدها المناصب وجعلها تستفيد من العلم وتفيد به غيرها، وتجاهد مع الرجل وتدعمه في المعارك، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر وتؤّيد وتعارض فنهض بها ومنحها قيمتها الحقيقية فعرفت دورها الأساسي، مما جعل عمر يستحق أن يكون نصيرا للمرأة بامتياز ولكن للمرأة الأخرى للمرأة العمرية.

إن هذا الفهم العمري لدور المرأة بأن كان عدّوا لنموذج معيّن ونصيرا لنموذج آخر، إنّما كان فهماً مستنداً للقرآن والسّنة كما أنه فهماً على النحو الصحيح، ولكن همّ عمر لم يكن "المرأة الأخرى" بل كان يريد كما يريد الإسلام "الإنسان الآخر" فقضايا المرأة لا يمكن حقا أن تُفصل عن قضايا الرّجل، في النّهاية القضية قضية "الإنسان الآخر" بمعزل عن كونهما ذكرا أو أنثى، الإنسان الآخر الذي يكون حقا ما خلقة الله لأجل أن يكونه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.