شعار قسم مدونات

تركيا وعملية إدلب.. نظرة في العمق

blogs أردوغان
تواجه تركيا العديد من التحديات بالتزامن مع الإعلان عن بدء عملية إدلب التي جاءت بمثابة أداة لتنفيذ مخرجات مؤتمر أستانا-6، ففي الوقت الذي تسعى تركيا فيه لكسب تأييد الرأي العام العربي ، تجد نفسها في موقف يفرض عليها استبدال استراتيجيتها المثالية بأخرى ميكافيلية (واقعية) لم تكن لتمثل السيناريو الذي تمنته قبل بضع سنوات.
إنّ تركيا في واقع الأمر هي الطرف الأكثر تضرراً من آثار السياسات  التي خلفتها إدارة أوباما، ففي الوقت التي كانت تنتظر من الولايات المتحدة التي تعتبرها تركيا شريكها الاستراتيجي أن تتدخل لموازنة الدور الروسي في الأزمة ، وجدت نفسها مكشوفة الظهر في مستنقع الحروب بالوكالة  في سوريا الأمر الذي جعلها تعيد النظر في المسألة السورية ككل. 

في ظل تراجع المملكة العربية السعودية عن موازنة الدور الإيراني، واستحالة التعاون مع جبهة النصرة التي يمكن أن توازن في قوتها حزب الله (نظراً لأنها مدرجة على لوائح الإرهاب العالمية). كان لا بد لتركيا أن تُخفّض من سقف مطالبها للحد الأدنى الذي يضمن أمنها القومي، من هذا المنطلق يمكن الجزم بأنّ قبول مخرجات استانا-6 كان بمثابة أفضل  الخيارات السيئة المتاحة أمام تركيا.

بعضهم يتحدث عن إمكانيّة إعادة جزء من اللاجئين السوريين المتواجدين على الأراضي التركيّة إلى منطقة خفض التوتر في إدلب

وعلى الرغم من أن استضافة الولايات المتحدة لعدو تركيا الأول فتح الله غولن العقل المدبّر لمحاولة الانقلاب الأخيرة كان لها أثر كبير في زعزعة الثقة بين الشريكين الاستراتيجيين، لكنّها لم تحمل نفس تأثير المسألة الكردية، حيث إنً دعم الولايات المتحدة للفصائل الكردية باعتبارها الحليف الأكثر فاعلية في قتال داعش والفصائل المتطرّفة الأخرى قد شكّل الفجوة الكبرى في العلاقة بين أنقرة وواشنطن، لا سيما بعد قيام إقليم كردستان بالاستفتاء على الانفصال بغية تشكيل دولة كردية، الأمر الذي يمكن بدوره أن يغيّر من توازن القوى الإقليمي بشكل جذري ويعيد رسم الحدود الجنوبية لتركيا.

إذاً فإن الهدف من عمليّة إدلب يتعدّى مجرد ضمان تأمين مناطق لخفض التوتر، حيث يمكن أن نشير إلى نوعين من الأهداف، النوع الأول وهو الأهداف الجيواستراتيجية: يرى الخبراء أن التواجد العسكري التركي في إدلب سوف يمثل حاجزاً إستراتيجيّاً يحرم القوات الكردية من النفاذ إلى البحر الأبيض المتوسط و هذا يجعل الحصار المفروض على إقليم كردستان أكثر فاعليّة.

أما النوع الثاني من الأهداف فهو ذو طبيعة سياسية: حيث تجد تركيا نفسها ملزمة بالتواجد على الأراضي السورية لتضمن لنفسها موقع القوة في أي مفاوضات سياسية محتملة ضمن إطار الحل السياسي للأزمة السورية.

والجدير بالذكر أن البعض يتحدث عن إمكانيّة إعادة جزء من اللاجئين السوريين المتواجدين على الأراضي التركيّة والذين يصل عددهم إلى ما يقارب الثلاثة ملايين إلى منطقة خفض التوتر في إدلب، مع إمكانية تقديم الخدمات الأساسيّة "إغاثة، صحة، تعليم" لهؤلاء من قبل لجان تشرف عليها الحكومة التركيّة، الأمر الذي إن صحّ فهو يدل على أن تركيا تخطط للبقاء مدةً طويلةً في تلك المنطقة.

تطورات المسألة الكردية سوف تمثل نقطة التحول في اختيار أنقرة لنهجها الاستراتيجي خلال عملية إدلب وما بعدها
تطورات المسألة الكردية سوف تمثل نقطة التحول في اختيار أنقرة لنهجها الاستراتيجي خلال عملية إدلب وما بعدها
 

تبقى المعضلة الأهم هي كيفية تعامل الأتراك مع جبهة تحرير الشام ”النصرة سابقاً“ والتي تفرض سيطرتها على أجزاء واسعة من إدلب، وهنا يمكن افتراض سيناريوهين محتملين، أولهما أن تقرر تركيا التعامل مع شريكها الاستراتيجي بمبدأ العين بالعين بحيث تشترط تركيا على الولايات المتّحدة التوقف عن تغطية من تعتبرهم تركيا إرهابيين (منظمة غولن، والفصائل الكردية) مقابل الالتزام التركي بقوائم الولايات المتحدة للإرهاب. أما السيناريو الثاني يتمثّل بالتزام  تركي غير مشروط بقوائم الولايات المتحدة دون أن تحاول تركيا كسب ورقة ضغط تمكنها من إعادة تعريف الشراكة الاستراتيجية.

مع أن السيناريو الأول سيضمن  تعزيز تركيا لدورها الإقليمي، والحفاظ على موقعها النّدي في لعبة العلاقات الدوليّة، فإن النظرة الواقعية المحكومة بتوازن القوى ترجّح كفة الاختيار نحو السيناريو الثاني، حيث إن التفاهمات التركية الروسية هشّة نسبياً ولا يمكن اعتبارها بديلاً عن الشراكة الأمريكية التركية بكل حال من الأحوال.

إن المفاضلة بين هذين السيناريوهات تعتمد على إمكانية إيجاد البيت الأبيض لاستراتيجيّة فعالة ومفهومة من قبل الجانب التركي تجاه الأزمة السورية، كما أن تطورات المسألة الكردية سوف تمثل نقطة التحول في اختيار أنقرة لنهجها الاستراتيجي خلال عملية إدلب وما بعدها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.